ثم حث على التجاوز وترك الانتصار بقوله (إِنْ تُبْدُوا) أي إن تظهروا (١)(خَيْراً) أي حسنة (أَوْ تُخْفُوهُ) أي الخير (أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ) أي عن مظلمة ولا تجهروا بالسوء عن الظالم (٢)(فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) [١٤٩] يعفو عن الجانين مع القدرة على الانتقام ، فعليكم أن تقتدوا بسنة الله وسنة رسوله.
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠))
قوله (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ) نزل إخبارا عن أهل الكتاب أنهم يؤمنون بموسى وعيسى ، ويكفرون بغيرهما من الأنبياء (٣)(وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ) ولا يعلمون أن الكافر برسول من رسله كافر بالله (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ) كموسى وعزير (وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) كعيسى ومحمد (وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ) أي بين الكفر والإيمان (سَبِيلاً) [١٥٠] أي دينا وسطا بين الكفر والإسلام ، ولفظ «ذلك» يستعمل بمعنى المفرد ، وهو الأغلب وقد يقع بمعنى المثنى والجمع ، وههنا بمعنى المثنى.
(أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١))
ثم بين الله أن ما فعلوه كفر يقينا بقوله (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) مصدر مؤكد ، أي كفرا كاملا لا شك فيه (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ) بجميع الرسل أو بعضهم وبما أنزل إليهم (عَذاباً مُهِيناً) [١٥١] يهانون فيه أبدا.
(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢))
ثم بين ثواب المقرين بجميعهم بقوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) بالإيمان ببعض والكفر ببعض ، وأدخل «بين» في «أحد» وهو يقتضي المتعدد ، لأن أحدا بمعنى الجمع هنا ، لأنه لفظ يعبر به عن المفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث ، أي آمنوا بجميع رسل الله بلا تفرقة بينهم (أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ) بالياء والنون (٤) ، أي نعطيهم (أُجُورَهُمْ) أي ثوابهم في الجنة (٥)(وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لمن تاب منهم (رَحِيماً) [١٥٢] بهم لطاعتهم ربهم.
(يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣))
قوله (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ) نزل حين قال علماء اليهود ككعب بن الأشرف وفنحاص بن عازورا وأصحابهما : إن كنت نبيا يا محمد فأت بكتاب من السماء جملة واحدة لا بالدفعات كما جاء به موسى تجهيلا لهم وتسلية للنبي عليهالسلام (٦) ، فقال تعالى إن استكبرت ما سألوه منك (فَقَدْ سَأَلُوا) أي سأل آباؤعم وهم بمنزلتهم وعلى مذهبهم في الرضا بسؤالهم (مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ) أي مما سألوه منك (فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) أي عيانا وهم الذين ساروا مع موسى إلى طور سينا للاعتذار من ذنوبهم (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) أي أحرقتهم النار النازلة من السماء (بِظُلْمِهِمْ) أي بكفرهم وسؤالهم للرؤية عيانا (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) إلها مع ذلك السؤال وعبدوه في حال غيبة موسى (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) أي العلامات بموسى على نبوته (فَعَفَوْنا عَنْ
__________________
(١) أي إن تظهروا ، س : أي تظهروا ، ب م.
(٢) الظالم ، ب س : ظالم ، م.
(٣) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ١ / ٤٠١ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٢ / ١٨١.
(٤) «يؤتيهم» : قرأ حفص بالياء وغيره بالنون ، وضم هاءه يعقوب. البدور الزاهرة ، ٨٧.
(٥) في الجنة ، ب م : في الجمع ، س.
(٦) لعله اختصره من السمرقندي ، ١ / ٤٠١ ؛ والبغوي ، ٢ / ١٨٢ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ١٥٧.