قيل : «هم في توابيت من حديد مقفلة في النار» (١) ، وعذاب المنافق (٢) أشد من عذاب غيره من الكفرة لكفره ونفاقه واستهزائه بالدين.
(إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦))
ثم استثنى التائبين من النفاق بقوله (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) أي رجعوا من النفاق (وَأَصْلَحُوا) الفاسد من أعمالهم (وَاعْتَصَمُوا) أي تمسكوا (بِاللهِ) أي بتوحيده (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ) بقلوبهم (لِلَّهِ) لأن النفاق كفر القلب وإظهار الإيمان باللسان في الشريعة ، وأما تسمية الفساق باسم النفاق فمجاز وتغليظ ليمتنع عن فسقه كما قال عليهالسلام : «ثلث من كن فيه كان منافقا وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم : من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان» (٣) ، ثم قال تعالى في جزاء التائبين من النفاق (فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) في الجنة أو معهم فيما لهم وما عليهم في الدنيا (وَسَوْفَ يُؤْتِ) بحذف ياء «يؤتى» خطا اتباعا للفظ ، لأنه حذف لالتقاء الساكنين ، أي يعطي (اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) [١٤٦] في الآخرة فيشاركونهم ويساهمونهم.
(ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً (١٤٧))
ثم قال باستفهام التقرير ، أي تقرير أنه لا يعذب المؤمن الشاكر (٤) تطييبا لنفوس المؤمنين (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ) أي أي شيء يفعل بعذابكم (إِنْ شَكَرْتُمْ) الله (وَآمَنْتُمْ) به ، أي وحدتموه ، يعني ما حاجته إلى تعذيبكم لو آمنتم بربكم خالقكم ورازقكم ، وشكرتم له على نعمه التي أنعمها عليكم أيتشفى به من الغيظ أم يستجلب به نفعا أو يستدفع (٥) به ضررا كما يفعل السلاطين على رعاياهم بعذابهم ، وهو الغني الذي يستحيل عليه شيء من ذلك فان أقمتم بشكر نعمته وآمنتم به فقد أبعدتم عن أنفسكم استحقاق العذاب ، ويجوز أن يكون «ما» نافية ، أي لا يعذبكم إن شكرتموه (وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً) [١٤٧] أي مثيبا موفيا أجوركم ، عالما بحق شكركم وإيمانكم ، وتقديم الشكر على الإيمان هنا مع أن الأمر بالعكس إيذان بأن أصل التكليف الشكر المبهم ، لأن العاقل إذا نظر إلى ما أنعم عليه تصور منعما فشكر شكرا مبهما ، فأدى ذلك إلى تجديد النظر لدرك معرفة المنعم القديم فآمن به فشكر شكرا مفصلا فقدم الشكر على الإيمان من هذا الوجه.
(لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨))
قوله (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ) أي أن تجهروا بين الناس بذكر رجل منهم (بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) كالشتم والخبث وغير ذلك من الألفاظ القبيحة (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) نصب على الاستثناء بتقدير المضاف ، أي إلا جهر من ظلمه شخص فيدعو عليه بقول اللهم أعني عليه أو خذ لي حقي منه أو (٦) بدئ بالشتم فرد مثله ، نزل في شأن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، شتمه رجل فسكت أبو بكر مرارا ، ثم رد عليه (٧) ، وقيل : نزل في الضيف الذي ينزل بالقوم فلم يحسنوا إليه ، فله أن يذكر ما فعلوا به ، ويسب مثل ما يسبوه ما لم يكن كلاما فيه حد والسكوت أفضل (٨)(وَكانَ اللهُ سَمِيعاً) لأقوالكم ودعائكم (عَلِيماً) [١٤٨] بأحوالكم وعقابكم إن ظلمتم.
(إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩))
__________________
(١) عن ابن مسعود ، انظر البغوي ، ٢ / ١٧٨.
(٢) المنافق ، س : المنافقين ، ب م.
(٣) أخرجه مسلم ، الإيمان ، ١٠٧ ، ١٠٨ ، ١٠٩ ، ١١٠ ؛ والبخاري ، الإيمان ، ٢٤ ، الشهادات ، ٢٨ ، الوصايا ، ٨ ، الأدب ، ٦٩ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٢ / ٣.
(٤) أي تقرير أنه لا يعذب المؤمن الشاكر ، ب س : أي تقريرا أنه لا يعذب المؤمنين الشاكرين ، م.
(٥) أم يستجلب به نفعا أو يستدفع به ، ب : أم سيجلب به نفعا أو سيدفع به ، س ، أم ستجلب به نفعا أو ستدفع به ، م ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٢ / ٣.
(٦) أو ، ب م : و ، س.
(٧) أخذه المصنف عن السمرقندي ، ١ / ٤٠٠.
(٨) عن مجاهد ، انظر السمرقندي ، ١ / ٤٠٠ ؛ والواحدي ، ١٥٧.