(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨))
ثم بين حكم السرقة بقوله (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) وإنما بدأ بالمذكر ، لأن السرقة في الرجال أكثر ، وهو مبتدأ ، أي الذي سرق والتي سرقت من المال ، خبره (فَاقْطَعُوا) والفاء فيه لتضمن الكلام معنى الشرط الذي يدل على أن الأول سبب للثاني ، أي اقطعوا بسبب السرقة (أَيْدِيَهُما) أي يديهما ، والمراد بها اليمين بالاتفاق ولم يثن لئلا يجمع (١) في كلمة واحدة بين تثنيتين ، لأنه قليل في كلامهم ، والحكم في الشرع أنه إذا سرق من حرز نصابا لا شبهة له فيه قطع اليمين من الكوع لا من المنكب خلافا للخوارج ، ولا قطع دون النصاب عن الجمهور ، وهو عشرة دراهم عند أبي حنيفة رضي الله عنه ، وربع دينار أو قيمته عند الشافعي ، فان سرق مرة قطعت يده اليمنى وحسمت بالنار فان عاد قطعت رجله اليسرى من مفصل (٢) الكعب ، ولا يقطع في الثالثة والرابعة ، بل يحبس حتى يظهر توبته عند أبي حنيفة رضي الله عنه ، ويقطع عند الشافعي يده اليسرى في الثالثة ورجله اليمنى في الرابعة ، فان عاد عزر وحبس كذلك (جَزاءً) مفعول له ، أي للجزاء (بِما كَسَبا) من السرقة في الدنيا (نَكالاً مِنَ اللهِ) مثله في النصب ، أي لعقوبة منه (وَاللهُ عَزِيزٌ) أي غالب بالنقمة على من عصى أمره (حَكِيمٌ) [٣٨] أي حاكم يحكمه على السارق بقطع يده.
(فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩))
(فَمَنْ تابَ) أي رجع عن سرقته (مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ) أي بعد ارتكاب السرقة (وَأَصْلَحَ) أمره (٣) بعمل الخير (فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) أي يقبل توبته ، ويسقط عنه عقاب السرقة (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لما سلف من ذنبه بالتوبة (رَحِيمٌ) [٣٩] به إذا أطاع أمره وأصلح عمله ، روي عن الشافعي : أنه إذا تاب ورد المال لا يقطع يده في أحد قوليه ، وعند أبي حنيفة القطع لا يسقطه التوبة ، وقيل : يسقط الحد عن الحربي إذا سرق وتاب ليكون أدعى له إلى الإسلام ولا يسقط عن المسلم ، لأن فيه صلاحا للمسلمين (٤).
(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠))
ثم قال (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يحكم في أهلهما ما يشاء ، لا اعتراض لأحد عليه (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) إذا أصر (٥) على الذنوب (وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) إذا تاب عن الكبائر ولم يصر على الصغائر ، قيل : قدم التعذيب هنا على المغفرة لتقدم السرقة على التوبة (٦) ، وقيل : لتهويل شأن السرقة وتغليظها (٧)(وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [٤٠] من المغفرة والتعذيب ولما كان كيد المنافقين في الإسلام بموالاة الكفار كالسرقة.
(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١))
قال تعالى تسلية للنبي عليهالسلام وإظهارا لكذبهم في الإيمان (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) نزل في شأن أبي لبانة حين حاصر النبي عليهالسلام بني قريظة ، فأشار إليهم أبو لبانة ، وكان حليفا لهم أنكم إن نزلتم عن حصونكم قتلكم محمد فلا تنزلوا (٨) ، فقال تعالى لا تهتم ولا تبال يا محمد بمسارعة
__________________
(١) ولم يثن لئلا يجمع ، ب م : ولم تثن لئلا يجتمع ، س.
(٢) من مفصل ، ب م : من مفصله ، س.
(٣) أمره ، ب م : أي أصلح أمره ، س.
(٤) أخذه المؤلف عن الكشاف ، ٢ / ٢٦.
(٥) إذا أصر ، ب م : إذا أصروا ، س.
(٦) وهذا الرأي منقول عن الكشاف ، ٢ / ٢٧.
(٧) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.
(٨) نقله عن السمرقندي ، ١ / ٤٣٦.