مُحِيطٌ) أي محدق بالعلم والقدرة (بِالْكافِرِينَ [١٩]) أي بأعمالهم الخبيثة ، لا يفوت أحد منهم وقت التعذيب ثمه ، والإحاطة : إدراك الشيء من جميع جوانبه.
(يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠))
ثم استأنف ببنان تهويل حال البرق ، كأنه قيل : كيف ما لهم مع البرق ، فقال (يَكادُ) أي يقرب (الْبَرْقُ يَخْطَفُ) أي يسلب سرعة (أَبْصارَهُمْ) أي نورها (١) من شدة ضوء البرق ، وجملة (يَخْطَفُ) في محل نصب خبر (يَكادُ) ، وشرط خبر كاد أن يكون فعلا مضارعا بلا أن للاستقبال ، لأنه موضوع لمقاربة وقوع الفعل المتأول باسم الفاعل ، ولذا لم يقل : أن يخطف (كُلَّما أَضاءَ) أي أنار البرق الطريق في الليلة المظلمة (لَهُمْ مَشَوْا) أي ساروا (فِيهِ) أي في ضوءه (وَإِذا أَظْلَمَ) أي ذهب ضوءه فصار الطريق مظلما (عَلَيْهِمْ قامُوا) أي وقفوا متحيرين في مكانهم ، قيل : استعمل (كُلَّما) مع الإضاءة و (إِذا) مع الإظلام ، لأن تكرير الفعل منهم في الإضاءة مطلوب ، وفي الإظلام ليس بمطلوب لهم (٢) ، المعنى : أن المنافقين شبهوا في نفاقهم وضلالتهم عن الهدى بمن كان في ليلة مظلمة في مفازة ، فنزل مطر من السماء ، وفيه ظلمات ورعد وبرق ، لا يمكن المشي فيها ، ويجعل أصابعه في أذانه من هول الرعد ، ويختلس البرق ببصره من شدة ضوءه ، فكلما أضاء الطريق عند ذلك يمشي فيه ، وإذا أظلم عليه بقي متحيرا في مكانه ، لأن المنافقين إذا تكلموا بكلمة الشهادة ليستأنسوا المؤمنين ويمضون معهم آمنين من السيف والسبي مع كتمان الكفر في قلوبهم ، وكلما أظهر لهم علامة من علامات نبوة محمد عليهالسلام مالوا إليه مدة ، وإذا أصاب المسلمين محنة كمحنة يوم أحد ثبتوا على كفرهم وإذا قرئ (٣) القرآن عليهم (٤) يتصاممون عن استماع آياته المنذرة والمبشرة مخافة أن ينزل عليهم شيء يكشف سرهم ويظهر حالهم أو مخافة ميل القلب إلى الإيمان لكونه عندهم كفرا ، فالمطر القرآن ، لأنه ينزل من السماء لإصلاح الناس وحيوة قلوبهم كالمطر ينزل من السماء لإصلاح الأرض وحيوة النبات ، والظلمات ذكر الشرك والنفاق ، وشبهاتهم في القرآن ، والرعد هو الوعيد والإنذار للعصاة ، والبرق ما ظهر فيه من علامات نبوته والبشارة بالجنة وما فيها من الوعد (٥) ، والصواعق التكاليف الشاقة والأخبار الداقة فيه ، فهذه الأمثال الثلثة للمنافقين الذين كانوا في المدينة لإيضاح الحجة عليهم.
قوله (وَلَوْ شاءَ اللهُ) مفعوله محذوف ، أي لو أراد أن يذهب الأسماع التي في الرأس والأبصار التي في العين كما ذهب بسمع قلوبهم وأبصارها (لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) عقوبة لهم ، لأنه لا يعجز عن ذلك (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) أي على كل موجود بالإمكان (قَدِيرٌ [٢٠]) أي فاعل له على قدر ما تقتضيه (٦) حكمته ، لا ناقصا ولا زائدا ، وهو صفة مخصوصة به تعالى ، ومثله المقتدر ، ومعنى القدرة أن يوقع الفاعل الفعل على مقدار قوته وما يتميز عن العاجز ، فخرج المستحيل عند ذكر القادر على الأشياء كلها ، والشيء يرادف الموجود واجبا أو غيره ، ولا يطلق على المعدوم إلا بالتجوز كقوله تعالى (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ)(٧) ، لأنه قدر كالموجود لصدق الوعد به.
(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١))
قوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ) الآية مسوق لإثبات التوحيد وتحقيق نبوة محمد عليهالسلام اللذين أصل الإيمان ، قيل :
__________________
(١) نورها ، ب س : نورهما ، م.
(٢) هذا الرأي مأخوذ عن الكشاف ، ١ / ٤٥.
(٣) قرئ ، ب : قرأ ، س م.
(٤) عليهم ، ب م : ـ س.
(٥) الوعد ، ب س : الوعيد ، م.
(٦) تقتضيه ، ب س : يقتضيه ، م.
(٧) الحج (٢٢) ، ١.