(لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [١٦٤] أي ينظرون بعيون قلوبهم ويعتبرون ، لأنها دلائل على عظم قدرة الله فيها وباهر حكمته فيستدلون بهذه الأشياء على موجدها فيوحدونه ، روي عن النبي عليهالسلام أنه قال : «ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها» (١) ، أي أسقطها عن نظره لم يتفكر فيها ولم يعتبر بها.
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦))
قوله (وَمِنَ النَّاسِ) تعنيف للكفار على عبادة غير الله لجهلهم المفرط وقساوة قلوبهم ، أي ومن المشركين (مَنْ يَتَّخِذُ) للعبادة (مِنْ دُونِ اللهِ) وهو المستحق لها (أَنْداداً) أي أصناما (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) أي كحب المؤمنين الله تعالى ، يعني يعظمون أصنامهم كما يعظم المؤمنين ربهم ، ثم فضل محبة المؤمنين لعدم زوالها عنهم بكل حال من الرخاء والشدة بقوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) من حب الكفار وأصنامهم لزواله عنهم ، لأنهم إذا أصابتهم شدة تركوا عبادتها أو إذا رأوا صنما يعجبهم أخذوه وتركوا الأول ، قيل : إن باهلة اتخذوا إلها من تمر وأقط وعبدوه ثم أكلوه في قحط أصابهم (٢) ، قوله (وَلَوْ يَرَى) بالتاء خطاب لكل مخاطب أو لنبي عليهالسلام ، أي ولو ترى يا محمد بالعين (الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي ارتكبوا الظلم العظيم من الشرك فهو مفعول «ترى» وبالياء غيبة (٣) وفاعله (الَّذِينَ ظَلَمُوا) ، أي ولو يرى بالقلب ، أي لو يعلم متخذ والأنداد (إِذْ) أي إذا (يَرَوْنَ الْعَذابَ) بعيونهم يوم القيامة بفتح الياء معلوما وبضمها مجهولا (٤)(أَنَّ الْقُوَّةَ) أي الغلبة والقدرة الإلهية (لِلَّهِ جَمِيعاً) نصب على الحال ، يعني لو يعلم الكفار أن القدرة كلها لله على كل شيء من الثواب والعقاب لا لأندادهم ليشفعوا لهم إذا عاينوا العذاب يوم القيامة لتركوا عبادتها وندموا عليها أشد ندامة ، ف «أن» مع الاسم والخبر ساد مسد مفعولي «يرى» بالياء ، وجواب «لو» محذوف كما عرفت ، وعلى تقدير أن يكون القراءة في «تري» بتاء الخطاب كان الجواب لرأيت أن القوة لله جميعا ، فالجملة في محل النصب مفعول رأيت بمعنى علمت ، قوله (وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ) [١٦٥] عطف عليه قوله (إِذْ تَبَرَّأَ) بدل من (إِذْ يَرَوْنَ) أو ظرف لشديد ، أي الله شديد العذاب حين تبرأ (الَّذِينَ اتُّبِعُوا) أي القادة (مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) أي الأتباع وأصل التبرأ التخلص ، ويستعمل للتعبد مما يستكره والتفرق عنه (وَرَأَوُا الْعَذابَ) أي تبرؤا منهم في حال رؤيتهم العذاب ، فالواو فيه للحال بتقدير قد ، قوله (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) [١٦٦] عطف على «تبرأ» ، و «بهم» بمعنى عنهم ، أي انقرضت عنهم أسباب الوصلة والخلة من القرابة والعهود والحلف التي كانت بينهم في الدنيا.
(وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧))
(وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) أي الأتباع يوم القيمة على وجه التمني (لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً) أي رجعة إلى الدنيا وذلك حين تبرأ منهم الرؤساء ولم ينفعوا لهم شيئا (فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ) أي من رؤسائنا (كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا) الآن (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الإراء الفظيع وهو نزول العذاب عليهم وتبرأ بعضهم من بعض (يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ) أي ندمات ، يعني انقلبت أعمالهم التي حسبوها نافعة لهم حسرات (عَلَيْهِمْ) فلا يرون مكان أعمالهم إلا الحسرات حيث لم تقبل (٥) لكونها لغير وجه الله فأوردتهم النار (وَما هُمْ) أي الأتباع والمتبوعون (بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) [١٦٧] لأنهم خلقوا لأجلها.
__________________
(١) انظر الكشاف ، ١ / ١٠٤. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.
(٢) نقله عن الكشاف ، ١ / ١٠٤.
(٣) «يري» : قرأ نافع وابن عامر ويعقوب بتاء الخطاب ، والباقون بياء الغيبة. البدور الزاهرة ، ٤٣.
(٤) «يرون» : قرأ الشامي بضم الياء والباقون بفتحها. البدور الزاهرة ، ٤٣.
(٥) تقبل ، ب م : يقبل ، س.