وكان كثير المال جوادا ، وكان مرموقا بالوزارة ، وداره مجتمع العلماء ، وملتقى الأئمة ، ونظرا لما عرف عنه من تعلّق بالمذهب الأشعري ، وذود عنه ، وسعى حثيث لنشره فقد ألهب ذلك حقد الكندري ، خاصة وقد كان يخشى أن يقع اختيار السلطان عليه للوزارة من دونه ، فمضى يلفق ـ لدى السلطان ـ عنه التهم. ولم يكتف بذلك بل لجأ إلى حيلة دنيئة حين حصل من السلطان على تفويض بسبّ المبتدعة على المنابر ، فلم يجد السلطان فى ذلك بأسا ، فوافق عليه ، ولكن الكندري استغل هذه الموافقة فأقحم اسم أبى الحسن الأشعري ضمن المبتدعة الواجب سبّهم ، وكل من كان يرفض الانصياع لذلك من الوعاظ والخطباء يفصل من عمله ، ويطرد من البلاد ، فنجم عن ذلك شر خطير ، وفتنة كبرى امتد شررهما إلى سائر المشرق ، وبات الأشاعرة فى حزن مقيم.
وفى وسط هذه المحنة ، وذات يوم كثيب أسود جاء الأمر من قبل السلطان بالقبض على القشيري وإمام الحرمين والرئيس الفراتي وأبى سهل الموفق ، ونفيهم ، ومنعهم من المحافل ، وحين قرئ الكتاب هجم جماعة من الأوباش على الأستاذ الفراتي وعلى القشيري وأخذوا يجرونهما فى الطرقات ، ويكيلون لهما أقذع أنواع التهكم والاستخفاف حتى وصل الشرطة بهما إلى محبس القهندر.
أمّا إمام الحرمين فقد هرب من البلاد على طريق كرمان ، واتجه إلى الحجاز ، وهناك جاور ، وأمّا أبو سهل. فقد كان لحسن الحظ غائبا فى بعض النواحي.
وبقي السجينان الجليلان فى المحبس ، وقامت جماعات كبيرة من الناس لإنقاذهما ، وحدثت حرب دامية بينهم وبين رجال السلطان انتهت بهزيمة رجال السلطان ، وأخرج السجينان الجليلان من سجنهما ، ولكن كبار الأشاعرة اجتمعوا وقرروا أن جهاز الحكم لن يهدأ له قرار ، وأن الخير فى رحيل أئمة المذهب إلى أماكن نائية عن المشرق.
فترك القشيري وطنه وبيته وأهله وعشيرته ، ومضى يضرب فى الأرض الواسعة عشر سنوات كاملة ، كان خلالها موضع التكريم والتبجيل ، وأقبل الناس عليه وعلى دروسه إقبالا عظيما ، حتى لقد خصص الخليفة العباسي ـ القائم بأمر الله ـ له مجلسا خاصا فى مسجد قصره ، وكان يواظب على شهود وعظه ومجلس حديثه ، ويكرمه ، ويحظى ببركته.