من خلال هذه السيرة التي حاولنا إيجازها نستطيع أن ندرك أهمية الكتاب الذي نقدم له.
فصاحب الكتاب رجل أوتى حظّا وفيرا من العلوم العقلية والنقلية قبل أن يلج باب الصوفية ، وهذه فى حدّ ذاتها ظاهرة لها أهميتها ، وقد رأينا كيف نصح الشيخ الدقاق له بالتعمق فى هذه الدراسات قيل البدء بالسير فى دروب الإرادة ، وفى ذلك أبلغ رد على من يتخرّصون الاتهامات عن الصوفية فيقولون إنهم قوم يجانبون العقل ، ويحتقرون العلم ويأمرون تلامذتهم بكسر محابرهم ـ كما يدعى ابن الجوزي غفر الله له.
والقشيري بعد ذلك كله أديب ينظم الشعر ويتذوق الأسلوب العربي تذوقا يعتمد على أسس قوية ، وقد أوضحنا ذلك بتفصيل كبير فى الأطروحة التي أعددناها عنه ونلنا بها درجة الدكتوراه.
فإذا جاء بعد ذلك ليدرس الأسلوب القرآنى ، وليستخرج منه إشارات لطيفة فهو معدّ لذلك أحسن إعداد ، وهو قمين بالوصول إلى نتائج باهرة ، بقدر ما لديه من تهيؤ صالح مكتمل.
ثم هو شافعى أشعرى ، وهو سنى متحفظ ، وهو بهذه الأوصاف باحث متعمق منصف ، لا يأخذ ـ وهو يستخرج إشارة من العبارة ـ إلا جانب الحذر والحيطة والاعتدال ، وهو من أجل ذلك لم يخرج قيد أنملة عن هذا الخط ، فلم ينصر الحقيقة على حساب الشريعة ، ولم ينصر الشريعة على حساب الحقيقة ، ولذلك لا نعجب إذا لم نجد عنده جموحا أو ميلا إلى جموح ، ولا نعجب إذا ألفيناه لا يسخط أوساط أهل السّنّة حتى من تعصّب منهم ضدّ التّصوف وأهله ؛ فقد كان رائده دائما نصرة الحق ، فليس غريبا أن يجىء «لطائف الإشارات» تعبيرا صادقا عن التصوف فى أفضل درجات الاعتدال ، وأنقى صور التناول. فليس عند القشيري ما عند غيره من مساس بالألوهية ، بل هو طالما يعلنها حربا لا هوادة فيها على المبتدعين والمضللين الذين أساءوا إلى التصوف وأهله تارة تحت ستار الثوب ، وتارة بدعوى الفناء المغرق ، ونحو ذلك من الأباطيل.
والتصوف عند القشيري ليس ثوبا مرقعا ، أو خرقة بالية تفرد صاحبها عمن سواه ، وتكون علما على تقواه ، إنما هو صفاء النفس من كروراتها. وإنّ من كان صادقا فى طويته ونيّته سيكون محفوظا فى حالة انمحائه ، سوف يردّ فى حالة الجمع إلى حالة الفرق الثاني