ضرورة وحسّا ، لم يعتقدوه ظنّا وحدسا ؛ تعرّف إليهم فعرفوه ، وأشهدهم فلذلك شهدوا ، ولو لم يقل لهم إنه من هو لما عرفوا من هو.
ولكنّ العلماء يشهدون بصحو عقولهم ، والموحّدون يشهدون بعد خمودهم ؛ فهم كما قيل :
مستهلكون بقهر الحق قد همدوا |
|
واستنطقوا بعد افتنائهم بتوحيد |
فالمجرى عليهم ما يبدو منهم ـ سواهم ، والقائم عنهم بما هم عليه وبه ـ غيرهم ، ولقد كانوا لكنهم بانوا ، قال قائلهم :
كتابى إليكم بعد موتى بليلة |
|
ولم أدر أنّى بعد موتى أكتب |
وأولو العلم على مراتب : فمن عالم نعته وفاق ورهبانية ، ومن عالم وصفه فناء وربّانية ، وعالم يعرف أحكام حلاله وحرامه ، وعالم يعلم أخباره وسننه وآثاره ، وعالم يعلم كتابه ويعرف تفسيره وتأويله ، ومحكمه وتنزيله ، وعالم يعلم صفاته ونعوته ويستقوى حججه وتوحيده بحديث يخرجه (....) (١) ، وعالم لاطفه حتى أحضره ثم كاشفه فقهره ، فالاسم باق ، والعين محو ، والحكم طارق والعبد محق ، قال قائلهم.
بنو حق غدوا بالحق صرفا |
|
فنعت الخلق فيهمو مستور |
وليست الإشارة من هذا إلا إلى فنائهم عن إحساسهم ، وعند علمهم بأنفسهم ، فأما أعمالهم (٢) أعيانهم فمخلوقة ، وما يفهم بذواتهم من أحوالهم فمسبوقة ، وذات الحق لا توصف بقبول حدثان ، وصفات ذاته لا تقبل اتصالا بالغير ولا انفصالا عن الذات ، تقدّس الحق عن كل ضدّ وندّ ، ووصل وفصل ، وجمع وفرق ، وعين وخلق ، وملك وفلك ، ورسم وأثر ، وعبد وبشر ، وشمس وقمر ، وشخص وغبر.
قوله جل ذكره : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ)
__________________
(١) مشتبهة.
(٢) نرجح أنه فى الأصل (وأعيانهم) وأن الواو سقطت من الناسخ أي أنهم وما يصنعون ـ من خلق الله ، وذلك الأصل من الأصول الكلامية عند القشيري.