يعنى إن الذين سقمت ضمائرهم ، وضعفت فى التحقيق بصائرهم تسبق إلى قلوبهم مداراة (١) الأعداء خوفا من معاداتهم ، وطمعا فى المأمول من صحبتهم ، ولو استيقنوا أنهم فى أسر العجز وذل الإعراض ونفى الطرد لأمّلوا الموعود من كفاية الحق ، والمعهود من جميل رعايته ، ولكنهم حجبوا عن محل التوحيد ؛ فتفرّقوا فى أودية الحسبان والظنون ، وعن قريب يأتيكم الفرج ـ أيها المؤمنون ، وترزقون الفتح بحسن الإقبال ، والظفر بالمسئول لسابق الاختيار ، فيشعرون الندم ، ويقاسون الألم ، وأنتم (تعلون) (٢) رءوسكم بعد الإطراق ، وتصفو لكم مشارب الإكرام ، وتضىء بزواهر القرب مشارق القلوب. حينئذ يقول الذين آمنوا هؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم يعاينون بأبصارهم ما تحققوه بالغيب فى أسرارهم ، ويصلون من موعودهم إلى ما يوفى ويربو على مقصودهم.
قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)
جعل صفة من لا يرتدّ عن الدين أن الله يحبه ويحبّ الله ، وفى ذلك بشارة عظيمة للمؤمنين لأنه يجب أن يعلم أن من كان غير مرتد فإنّ الله يحبه. وفيه إشارة دقيقة فإن من كان مؤمنا يجب أن يكون لله محبا ، فإذا لم تكن له محبة فالخطر بصحة إيمانه. وفى الآية دليل على جواز محبة العبد لله وجواز محبة الله للعبد.
ومحبة الحق للعبد لا تخرج عن وجوه : إمّا أن تكون بمعنى الرحمة عليه أو بمعنى اللطف والإحسان إليه ، والمدح والثناء عليه.
أو يقال إنها بمعنى إرادته لتقريبه وتخصيص محله.
وكما أن رحمته إرادته لإنعامه فمحبته إرادته لإكرامه ، والفرق بين المحبة والرحمة على هذا القول أن المحبة إرادة إنعام مخصوص ، والرحمة إرادة كل نعمة فتكون المحبة أخصّ من الرحمة ،
__________________
(١) وردت (هرارة) ، وبالرجوع إلى كتب التفسير ساعدتنا على اختيار (مداراة) (انظر تفسير وجدي).
(٢) وردت (تعلمون) والملائم أن تكون (تعلون) رءوسكم بعد الإطراق.