[فصل] الأغنياء أنفقوا من نعمهم على عاقبتهم. والفقراء أنفقوا من هممهم على منابتهم (١) ويقال العبد بقلبه وببدنه وبماله ، فبإيمانهم بالغيب قاموا بقلوبهم ، وبصلاتهم قاموا بنفوسهم ، وبإنفاقهم قاموا بأموالهم ، فاستحقوا خصائص القربة من معبودهم ، وحين قاموا لحقّه بالكلية استوجبوا كمال الخصوصية.
قوله جلّ ذكره : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)
إيمانهم بالغيب اقتضى إيمانهم بالقرآن ، وبما أنزل الله من الكتب قبل القرآن ، ولكنه أعاد ذكر الإيمان هاهنا على جهة التخصيص والتأكيد ، وتصديق الواسطة صلىاللهعليهوسلم فى بعض ما أخبر يوجب تصديقه فى جميع ما أخبر ، فإن دلالة صدقه تشهد على الإطلاق دون التخصيص ، وإنما أيقنوا بالآخرة لأنهم شهدوا على الغيب فإن حارثة لما قال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم كيف أصبحت؟ قال : أصبحت مؤمنا بالله حقا ، وكأنى بأهل الجنة يتزاورون وكأنى بأهل النار يتعاوون (٢) وكأنى بعرش ربى بارزا فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أصبت فالزم.
وهذا عامر بن عبد القيس يقول : «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا». وحقيقة اليقين التخلص عن تردد التخمين ، والتقصي عن مجوزات الظنون.
قوله جلّ ذكره : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)) يعنى على بيان
__________________
(١) من (أناب) وعند القشيري : التوبة بداية والأوبة نهاية والإنابة واسطتهما ، فكل من تاب لخوف عقوبة فهو صاحب توبة ؛ ومن تاب طمعا فى الثواب فهو صاحب إنابة ، ومن تاب مراعاة للأمر لا لرغبة في الثواب ، او رهبة من العقاب فهو صاحب اوبة (الرسالة ص ٥٠).
(٢) وردت (وكانى بأهل النار تعاويون) ووردت فى موضع آخر من الكتاب عند تفسير الآية ٤٩ من سورة البقرة (يتعادون). وبالرجوع إلى مصادر الحديث وجدناه على النحو التالي : «سأل النبي (ص) حارثة فقال : لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ فقال : عزفت نفسى عن الدنيا ، فأسهرت ليلى ، واظمأت نهارى ، وكأنى انظر إلى عرش ربى بارزا ، وكأنى انظر إلى اهل الجنة يتزاورون ، وإلى اهل النار فى النار كيف يتعاوون. فقال له النبي (ص) : عرفت فالزم.».
البزاز بسند ضعيف عن انس ، والطبراني فى الكبير من حديث الحارث بن مالك ، وسنده ضعيف ايضا