ويقال الطالبون فى نوح رهبتهم ، والواصلون فى روح قربتهم ، والموحّدون فى محو غيبتهم ؛ استولت عليهم الحقائق فلا لهم تطلع لوقت مستأنف فيستفزهم خوف أو يجرفهم طمع ، ولا لهم إحساس فتملكهم لذة ؛ إذ لمّا (١) اصطلموا ببواده ما ملكهم فهم عنهم محو ، والغالب عليهم سواهم.
قوله جل ذكره : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤))
لا يرضون فى أعمالهم بإخلال ، ولا يتصفون بجمع مال من غير حلال ، ولا يعرّجون فى أوطان التقصير بحال ، أولئك الذين صفتهم ألا يكون للشريعة عليهم نكير ، ولا لهم عن أحكام الحقيقة مقيل.
(فهُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) أي حققوا حقا وصدقوا صدقا. ويقال حق لهم ذلك حقا.
قوله : (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) على حسب ما أهّلهم له من الرّتب ؛ فبسابق قسمته لهم استوجبوها ، ثم بصادق خدمتهم ـ حين وفّقهم لها ـ بلغوها.
ولهم مغفرة فى المآل ، والسّتر فى الحال لأكابرهم ؛ فالمغفرة الستر ، والحق سبحانه يستر مثالب العاصين ولا يفضحهم لئلا يحجبوا عن مأمول أفضالهم ، ويستر مناقب العارفين عليهم لئلا يعجبوا بأعمالهم وأحوالهم ، وفرق بين ستر وستر ، وشتّان ما هما!
وأمّا الرزق الكريم فيحتمل أنه الذي يعطيه من حيث لا يحتسب ، ويحتمل أنه الذي لا ينقص بإجرامهم ، ويحتمل أنه ما لا يشغلهم بوجوده عن شهود الرزاق ، ويحتمل أنه رزق الأسرار بما يكون استقلالها به من المكاشفات.
قوله جل ذكره : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥))
__________________
(١) وردت (لم) والسياق يقتضى (لما).