وقد قال ابن زهرة في مقدّمة الكتاب : «فإنّي لمّا رأيت كتب أصحابنا ـ رضي الله عنهم ـ في التكليف عقلاً وسمعاً بين مطوّل يَشُقُّ ضبطه من قصد إليه ومقصَّر تمُسُّ الحاجة إلى الزيادة عليه ألّفت هذا الكتاب مجنّباً به عن الأمرين ، سالكاً فيه منزلة بين المنزلتين ، جامعاً بين أصول الدين وفروعه ، مشيراً في الفروع إلى الأدلّة ، لاسيّما في الأماكن المشتبهة المهمّة ...»(١).
لقد رتّب ابن زهرة كتابه الغنية ترتيباً خاصّاً ، حيث ابتدأ بإثبات التكاليف العقلية وختم بشرح التكاليف السمعية ، وبعبارة أخرى أنّه افتتح كتابه بالعلوم العقلية وذلك لأنّه كان يعتقد بان أساس العلوم الدينية النقلية (السمعية) مبتن على المدركات العقلية ، ولتبيين ذلك ـ أي التفكيك بين العلوم الدينية العقلية والعلوم الدينية النقلية وتقدّم التكاليف العقلية رتبة على التكاليف النقلية ـ ولإثبات وجوب التأمّل والتدبّر في الآثار الإلهية التي هي مقدمة لمعرفة الله وهو أوّل أمر يجب معرفته على المكلّف ، نرى ابن زهرة في بداية كتابه ـ بعد المقدمة وقبل بداية القسم الأوّل من الكتاب (أصول الدين) ـ ذكر فصلين ـ وإن كانا مختصرين ـ بيّن فيهما المباني النظرية التي اعتمدها المؤلّف في تأليفه للكتاب وترتيبه للمباحث العلمية فيه.
لقد جاء في الفصل الأوّل بيان المراد من (التكليف) وذلك تحت عنوان : (في بيان حقيقة التكليف وضروبه ومراتبه) وقد ساق الكلام فيه هناك إلى تقسيمه إلى التكليفين العقليّ والسَّمعيّ ، وفي نهاية هذا الفصل أشار ابن
__________________
(١) نفس المصدر ، قسم الأصولين ١٧ ؛ النسخة المصوّرة : ٢.