لكونها عناصر مشتركة بأنّ الغرض منها تعيين المعنى المراد منها ، أو تعيين المعنى الظاهر فيما إذا كان لها عدّة معان في اللغة. وليس هناك غرض آخر للأصولي من بحث هذه الدلالات المشتركة ، فهي كالدلالات الخاصّة يرجع فيها إلى أهل اللغة أو إلى التبادر. فالبحث عن كون صيغة ( افعل ) دالّة على الوجوب ، أو البحث عن كون اسم الجنس الخالي من القيد يدلّ على الإطلاق الغرض من ذلك أصوليّا هو إثبات أنّ صيغة ( افعل ) ظاهرة في الوجوب لا الاستحباب ، وإثبات أنّ اسم الجنس دالّ على الإطلاق.
وهذان البحثان يمكن الرجوع فيهما إلى أهل اللغة إن كان يثق الفقيه بنقلهم ، أو ببحثه كذلك بوصفه من أهل اللغة إن كان عالما باللغة ، أو يرجع إلى التبادر ؛ لأنّه يعيّن المعنى الظاهر والمدلول عليه من اللفظ. وقد تقدّم أنّ التبادر عمليّة عفويّة يمارسها كلّ إنسان من أهل اللغة والمحاورة ولا تحتاج إلى عناية ومئونة زائدة.
وحينئذ فما هو الداعي والغرض للأصولي من بحثها في علم الأصول وإتعاب نفسه تحليلا وتدقيقا في أنّ الظاهر هو الوجوب من صيغة الأمر أو أنّ اسم الجنس يدلّ على الإطلاق؟! بل إنّ البحث عنها كذلك ليس إلا تكرارا لغوا وتحصيلا للحاصل.
والتحقيق : أنّ البحوث اللفظية التي يتناولها علم الأصول على قسمين : أحدهما البحوث اللغويّة ، والآخر البحوث التحليليّة.
والجواب عن هذا الإشكال : أنّ البحوث اللفظيّة التي يتناولها علم الأصول لم يبحث عنها في اللغة : إمّا من باب الإهمال والتقصير ، أو من باب خروجها عن موضوع اللغة. ولأجل توضيح ذلك نذكر هذه المقدّمة :
إنّ البحث عن صيغة ( افعل ) أو عن اسم الجنس ونحوهما يمرّ في عدّة مراحل من البحث ، وهي :
١ ـ البحث عن مدلول هذه الكلمة وتحديد المعنى المستفاد منها ، وهذا بحث لغوي يرجع فيه إلى أهل اللغة أو التبادر.
٢ ـ البحث عن المصاديق والموضوع والأفراد الخارجيّة لهذه الكلمة والمفهوم ، وهذا بحث علمي طبيعي تتولاّه العلوم الطبيعيّة التجريبيّة.
٣ ـ البحث عن حقيقة وكنه وجوهر هذا المفهوم الموجود في الخارج ، وهذا بحث فلسفي يتولاّه فقه اللغة أو فلسفة اللغة.