بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ) (١).
هكذا يدفع القرآن بالانسان دفعاً لينظر وليتأمل في ماحوله من مظاهر وما يبدو له من أسرار ، فما خلقت هذه العجائب الكونية وما ملئت بها الآفاق والاعماق ليقلب الانسان فيها بصره فينال منها متعة النظر فحسب ، ولكن ليفتش اسرارها ويسبر اغوارها فيفيد من ذلك علماً يكمل به نفسه ويصلح دنياه ، وعقيدةً يثبت بها دينه ويسعد حياته ويصلح آخرته. هكذا يدفع القرآن بالانسان في هذه الآيات وفي نظائرها.
ولكنه في الآية السابقة يومي الى هذا العملاق الجبار الذي يخضع الطبيعة لإرادته ويسيطر على قواها بعلمه الى الانسان المقبل الذي يكتشف خبايا الكون بالمناظير والمجاهر ، ويحلل عناصر الموجودات بالمختبرات والمعامل ، الى إنسان القرن العشرين الذي يقف على نبع النور في المواد البسيطة ، ويستبطن طاقة الذرة في وحداتها الدقيقة ، ويفتح الغلقات من رموز الكون ، ويبرز المكنونات من أسرار الطبيعة ، الى هذا الكائن الطموح الذي يحاول أن يرقى أسباب السماء بسلم ، وأن ينفذ من أقطارها بسلطان ، والذي يثبت بالمشاهدة وبدقة الملاحظة أن الذرة الصغيرة تحتوي نظاماً شمسياً كاملاً دقيقاً كنظام الافق الشمسي الكبير !!
يجد أن في هذه الهباءة التي لا تدرك لصغرها إلا بمجهر. يجد أن فيها فلكا صغيراً كهذا الفلك المحسوس الكبير ، وأن في فلك الذرة نواة تتوسطه كما
__________________
١ ـ الفرقان ، الآية ٤٥ ـ ٥٤.