فالآية تنهاهم عما ليس لهم بحق وهو الخوف منهم على أنفسهم سواء أمروا بالخوف من الله أم لا ، ولذلك يعلل ثانيا الأمر بالخوف من الله بقيد مشعر بالتعليل ، وهو قوله : « إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ » وهذا بخلاف قوله : « فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ » فإن خشيتهم هذه خشية منهم على دينهم ، وليست بمبغوضة لله سبحانه لرجوعها إلى ابتغاء مرضاته بالحقيقة ، بل إنما النهي عنها لكون السبب الداعي إليها ـ وهو عدم يأس الكفار منه ـ قد ارتفع وسقط أثره فالنهي عنه إرشادي ، فكذا الأمر بخشية الله نفسه ، ومفاد الكلام أن من الواجب أن تخشوا في أمر الدين ، لكن سبب الخشية كان إلى اليوم مع الكفار فكنتم تخشونهم لرجائهم في دينكم وقد يئسوا اليوم وانتقل السبب إلى ما عند الله فاخشوه وحده فافهم ذلك.
فالآية لمكان قوله : « فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ » لا تخلو عن تهديد وتحذير ، لأن فيه أمرا بخشية خاصة دون الخشية العامة التي تجب على المؤمن على كل تقدير وفي جميع الأحوال فلننظر في خصوصية هذه الخشية ، وأنه ما هو السبب الموجب لوجوبها والأمر بها.؟
لا إشكال في أن الفقرتين أعني قوله. « الْيَوْمَ يَئِسَ » ، وقوله : « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي » ، في الآية مرتبطان مسوقتان لغرض واحد ، وقد تقدم بيانه فالدين الذي أكمله الله اليوم ، والنعمة التي أتمها اليوم ـ وهما أمر واحد بحسب الحقيقة ـ هو الذي كان يطمع فيه الكفار ويخشاهم فيه المؤمنون فأيأسهم الله منه وأكمله وأتمه ونهاهم عن أن يخشوهم فيه ، فالذي أمرهم بالخشية من نفسه فيه هو ذاك بعينه وهو أن ينزع الله الدين من أيديهم ، ويسلبهم هذه النعمة الموهوبة.
وقد بين الله سبحانه أن لا سبب لسلب النعمة إلا الكفر بها ، وهدد الكفور أشد التهديد ، قال تعالى : « ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » : ( الأنفال : ٥٣ ) وقال تعالى : « وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ » : ( البقرة : ٢١١ ) وضرب مثلا كليا لنعمه وما يئول إليه أمر الكفر بها فقال وَ « ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ » : ( النحل : ١١٢ ).
فالآية أعني قوله : « الْيَوْمَ يَئِسَ ـ إلى قوله ـ دِيناً » تؤذن بأن دين المسلمين في أمن