الحقيقة إلا من القياس الشعري.
وبلغ الإفراط في هذا الباب إلى حد قال قائلهم : إن الله سبحانه أنزه ساحة من أن يدب في حكمه وفعله الاعتبار الذي حقيقته الوهم فكل ما كونه تكوينا أو شرعه تشريعا أمور حقيقية واقعية ، وقال آخر : إن الله سبحانه أقدر من أن يحكم بحكم ثم لا يستطاع من إقامة البرهان عليه ، فالبرهان يشمل التكوينيات والتشريعيات جميعا. إلى غير ذلك من الأقاويل التي هي لعمري من مصائب العلم وأهله ، ثم الاضطرار إلى وضعها والبحث عنها في المسفورات العلمية أشد مصيبة.
وفي هذه البرهة ظهر التصوف بين المسلمين ، وقد كان له أصل في عهد الخلفاء يظهر في لباس الزهد ، ثم بان الأمر بتظاهر المتصوفة في أوائل عهد بني العباس بظهور رجال منهم كأبي يزيد والجنيد والشبلي ومعروف وغيرهم.
يرى القوم أن السبيل إلى حقيقة الكمال الإنساني والحصول على حقائق المعارف هو الورود في الطريقة ، وهي نحو ارتياض بالشريعة للحصول على الحقيقة ، وينتسب المعظم منهم من الخاصة والعامة إلى علي عليهالسلام.
وإذا كان القوم يدعون أمورا من الكرامات ، ويتكلمون بأمور تناقض ظواهر الدين وحكم العقل مدعين أن لها معاني صحيحة لا ينالها فهم أهل الظاهر ثقل على الفقهاء وعامة المسلمين سماعها فأنكروا ذلك عليهم وقابلوهم بالتبري والتكفير ، فربما أخذوا بالحبس أو الجلد أو القتل أو الصلب أو الطرد أو النفي كل ذلك لخلاعتهم واسترسالهم في أقوال يسمونها أسرار الشريعة ، ولو كان الأمر على ما يدعون وكانت هي لب الحقيقة وكانت الظواهر الدينية كالقشر عليها وكان ينبغي إظهارها والجهر بها لكان مشرع الشرع أحق برعاية حالها وإعلان أمرها كما يعلنون ، وإن لم تكن هي الحق فما ذا بعد الحق إلا الضلال؟.
والقوم لم يدلوا في أول أمرهم على آرائهم في الطريقة إلا باللفظ ثم زادوا على ذلك بعد أن أخذوا موضعهم من القلوب قليلا بإنشاء كتب ورسائل بعد القرن الثالث الهجري ، ثم زادوا على ذلك بأن صرحوا بآرائهم في الحقيقة والطريقة جميعا بعد ذلك فانتشر منهم ما أنشئوه نظما ونثرا في أقطار الأرض.