ولم يزالوا يزيدون عدة وعدة ووقوعا في قلوب العامة ووجاهة حتى بلغوا غاية أوجهم في القرنين السادس والسابع ثم انتكسوا في المسير وضعف أمرهم وأعرض عامة الناس عنهم.
وكان السبب في انحطاطهم أولا أن شأنا من الشئون الحيوية التي لها مساس بحال عامة الناس إذا اشتد إقبال النفوس عليه وتولع القلوب إليه تاقت إلى الاستدرار من طريقه نفوس وجمع من أرباب المطامع فتزيوا بزيه وظهروا في صورة أهله وخاصته فأفسدوا فيه وتعقب ذلك تنفر الناس عنه.
وثانيا : أن جماعة من مشايخهم ذكروا أن طريقة معرفة النفس طريقة مبتدعة لم يذكرها مشرع الشريعة فيما شرعه إلا أنها طريقة مرضية ارتضاها الله سبحانه كما ارتضى الرهبانية المبتدعة بين النصارى قال تعالى : « وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها » : ( الحديد : ٢٧ ).
وتلقاه الجمهور منهم بالقبول فأباح ذلك لهم أن يحدثوا للسلوك رسوما وآدابا لم تعهد في الشريعة ، فلم تزل تبتدع سنة جديدة وتترك أخرى شرعية ، حتى آل إلى أن صارت الشريعة في جانب ، والطريقة في جانب ، وآل بالطبع إلى انهماك المحرمات وترك الواجبات من شعائر الدين ورفع التكاليف ، وظهور أمثال القلندرية ولم يبق من التصوف إلا التكدي واستعمال الأفيون والبنج وهو الفناء.
والذي يقضي به في ذلك الكتاب والسنة ـ وهما يهديان إلى حكم العقل ـ هو أن القول بأن تحت ظواهر الشريعة حقائق هي باطنها حق ، والقول بأن للإنسان طريقا إلى نيلها حق ، ولكن الطريق إنما هو استعمال الظواهر الدينية على ما ينبغي من الاستعمال لا غير ، وحاشا أن يكون هناك باطن لا يهدي إليه ظاهر ، والظاهر عنوان الباطن وطريقه ، وحاشا أن يكون هناك شيء آخر أقرب مما دل عليه شارع الدين غفل عنه أو تساهل في أمره أو أضرب عنه لوجه من الوجوه بالمرة وهو القائل عز من قائل : « وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ » : ( النحل : ٨٩ ) وبالجملة فهذه طرق ثلاثة في البحث عن الحقائق والكشف عنها : الظواهر الدينية وطريق البحث العقلي وطريق تصفية النفس ، أخذ بكل منها طائفة من المسلمين على ما بين الطوائف الثلاث من التنازع والتدافع ، وجمعهم