وبينه وبين مخلوقة أسباب هي الأسباب بحسب الظاهر وهي أدوات وآلات لوجود الشيء ، وإن شئت فقل : هي من شرائط وجود الشيء الذي تعلق وجوده من جميع جهاته وأطرافه بالأسباب ، فمن شرائط وجود زيد « الذي ولده عمرو وهند » أن يتقدمه عمرو وهند وازدواج وتناكح بينهما ، وإلا لم يوجد زيد المفروض ، ومن شرائط « الإبصار بالعين الباصرة » أن تكون قبله عين باصرة ، وهكذا.
فمن زعم أنه يوحد الله سبحانه بنفي الأسباب وإلغائها ، وقدر أن ذلك أبلغ في إثبات قدرته المطلقة ونفي العجز عنه ، وزعم أن إثبات ضرورة تخلل الأسباب قول بكونه تعالى مجبرا على سلوك سبيل خاص في الإيجاد فاقدا للاختيار فقد ناقض نفسه من حيث لا يشعر.
وبالجملة فالله سبحانه هو الذي علم الإنسان خواص الأشياء التي تنالها حواسه نوعا من النيل ، علمه إياها من طريق الحواس ، ثم سخر له ما في الأرض والسماء جميعا ، قال تعالى : « وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ » : ( الجاثية : ١٣ ).
وليس هذا التسخير إلا لأن يتوسل بنوع من التصرف فيها إلى بلوغ أغراضه وأمانيه في الحياة أي أنه جعلها مرتبطة بوجوده لينتفع بها ، وجعله متفكرا يهتدي إلى كيفية التصرف والاستعمال والتوسل ، ومن الدليل على ذلك قوله تعالى : « أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ » : ( الحج : ٦٥ ) ، وقوله تعالى : « وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ » : ( الزخرف : ١٢ ) ، وقوله تعالى : « عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ » : ( غافر : ٨٠ ) وغير ذلك من الآيات المشابهة لها فانظر إلى لسان الآيات كيف نسبت جعل الفلك إلى الله سبحانه وهو من صنع الإنسان ، ثم نسب الحمل إليه تعالى وهو من صنع الفلك والأنعام ونسب جريانها في البحر إلى أمره وهو مستند إلى جريان البحر أو هبوب الريح أو البخار ونحوه ، وسمي ذلك كله تسخيرا منه للإنسان لما أن لإرادته نوع حكومة في الفلك وما يناظرها من الأنعام وفي الأرض والسماء تسوقها إلى الغايات المطلوبة له.
وبالجملة هو سبحانه أعطاه الفكر على الحس ليتوسل به إلى كماله المقدر له بسبب علومه الفكرية الجارية في التكوينيات أعني العلوم النظرية.
قال تعالى : « وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ » : ( النحل : ٧٨ ) و