قال ـ قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ » : ( الحجر : ٤٣ ) إلى غير ذلك من الآيات.
وبالجملة لما كانت العطايا الإلهية لنوع الإنسان من الاستعداد والتهيؤ مختلفة باختلاف الأزمان ، وكانت الشريعة والسنة الإلهية الواجب إجراؤها بينهم لتتميم سعادة حياتهم وهي الامتحانات الإلهية تختلف لا محالة باختلاف مراتب الاستعدادات وتنوعها أنتج ذلك لزوم اختلاف الشرائع ، ولذلك علل تعالى ما ذكره من اختلاف الشرعة والمنهاج بأن إرادته تعلقت ببلائكم وامتحانكم فيما أنعم عليكم فقال : « لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ ».
فمعنى الآية ـ والله أعلم ـ : لكل أمة جعلنا منكم ( جعلا تشريعيا ) شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لأخذكم أمة واحدة وشرع لكم شريعة واحدة ، ولكن جعل لكم شرائع مختلفة ليمتحنكم فيماءاتاكم من النعم المختلفة ، واختلاف النعم كان يستدعي اختلاف الامتحان الذي هو عنوان التكاليف والأحكام المجعولة فلا محالة ألقي الاختلاف بين الشرائع.
وهذه الأمم المختلفة هي أمم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وعليهم كما يدل عليه ما يمتن الله به على هذه الأمة بقوله : « شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى : ( الشورى : ١٣ ).
قوله تعالى : « فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً » (إلخ) الاستباق أخذ السبق ، والمرجع مصدر ميمي من الرجوع ، والكلام متفرع على قوله : « لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً » بما له من لازم المعنى أي وجعلنا هذه الشريعة الحقة المهيمنة على سائر الشرائع شريعة لكم ، وفيه خيركم وصلاحكم لا محالة فاستبقوا الخيرات وهي الأحكام والتكاليف ، ولا تشتغلوا بأمر هذه الاختلافات التي بينكم وبين غيركم فإن مرجعكم جميعا إلى ربكم تعالى فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ويحكم بينكم حكما فصلا ، ويقضي قضاء عدلا.
قوله تعالى : « وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ » ، هذا الصدر يتحد مع ما في الآية السابقة من قوله : « أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ » ، ثم يختلفان فيما فرع على كل منهما ، ويعلم منه أن التكرار لحيازة هذه الفائدة فالآية الأولى تأمر بالحكم بما أنزل الله وتحذر اتباع أهواء الناس لأن هذا الذي أنزله الله هي الشريعة المجعولة للنبي