وهذه الآية أعني آية البقرة كما ترفع التكليف بارتفاع الوسع كذلك تعطي ضابطا كليا في تشخيص مورد العذر وتمييزه من غيره ، وهو أن لا يستند الفعل إلى اكتساب الإنسان ، ولا يكون له في امتناع الأمر الذي امتنع عليه صنع ، فالجاهل بالدين جملة أو ، بشيء من معارفه الحقة إذا استند جهله إلى ما قصر فيه وأساء الاختيار استند إليه الترك وكان معصية ، وإذا كان جهله غير مستند إلى تقصيره فيه أو في شيء من مقدماته بل إلى عوامل خارجة عن اختياره أوجبت له الجهل أو الغفلة أو ترك العمل لم يستند الترك إلى اختياره ، ولم يعد فاعلا للمعصية ، متعمدا في المخالفة ، مستكبرا عن الحق جاحدا له ، فله ما كسب وعليه ما اكتسب ، وإذا لم يكسب فلا له ولا عليه.
ومن هنا يظهر أن المستضعف صفر الكف لا شيء له ولا عليه لعدم كسبه أمرا بل أمره إلى ربه كما هو ظاهر قوله تعالى بعد آية المستضعفين « فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً » وقوله تعالى « وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ » : ( براءة : ١٠٦ ) ورحمته سبقت غضبه.
قوله تعالى : « فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ » ، هؤلاء وإن لم يكسبوا سيئة لمعذوريتهم في جهلهم لكنا بينا سابقا أن أمر الإنسان يدور بين السعادة والشقاوة وكفى في شقائه أن لا يجوز لنفسه سعادة ، فالإنسان لا غنى له في نفسه عن العفو الإلهي الذي يعفى به أثر الشقاء سواء كان صالحا أو طالحا أو لم يكن ، ولذلك ذكر الله سبحانه رجاء عفوهم.
وإنما اختير ذكر رجاء عفوهم ثم عقب ذلك بقوله « وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً » اللائح منه شمول العفو لهم لكونهم مذكورين في صورة الاستثناء من الظالمين الذين أوعدوا بأن مأواهم جهنم وساءت مصيرا.
قوله تعالى : « وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً » قال الراغب : الرغام ( بفتح الراء ) التراب الرقيق ، ورغم أنف فلان رغما وقع في الرغام ، وأرغمه غيره ، ويعبر بذلك عن السخط كقول الشاعر :
إذا رغمت تلك الأنوف لم أرضها |
|
ولم أطلب العتبي ولكن أزيدها |
فمقابلته بالإرضاء مما ينبه على دلالته على الإسخاط ، وعلى هذا قيل : أرغم الله