لوازم دار العمل مرفوع هناك فلا اختيار للإنسان في تكلمه وإنما هو منوط بإذن الله ومشيئته ، وإن أحسنت التدبر وجدت أن مآل هذا الوجه أعني ارتفاع حكم الاختيار عن تكلم الإنسان وسائر أفعاله وإحاطة معنى الاضطرار بالجميع يومئذ يرجع إلى ما افتتحنا به الكلام أن خاصة هذا اليوم هي انكشاف حقائق الأشياء فيه ورجوع الغيب شهادة وعليك بإحكام التدبر في المعارف التي يلقنها الكلام الإلهي في المعاد فإنها معضلة عويصة عميقة.
وذكر بعضهم أن معنى قوله : « لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ » أنها لا تتكلم فيه إلا بالكلام الحسن المأذون فيه شرعا لأن الناس ملجئون هناك إلى ترك القبائح فلا يقع منهم قبيح وأما غير القبيح فهو مأذون فيه.
وفيه أنه تخصيص من غير مخصص فاليوم ليس بيوم عمل حتى يؤذن فيه في إتيان الفعل الحسن ولا يؤذن في القبيح ، والإلجاء الذي منشؤه كون الظرف ظرف جزاء لا عمل لا يفرق فيه بين العمل الحسن والقبيح مع كون كليهما اختياريين لأن الحسن والقبح إنما يعنون بهما الأفعال الاختيارية.
على أن الله تعالى يقول : « هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ » ومن المعلوم أن الإتيان بالأعذار ليس من الفعل القبيح في شيء.
وقال آخرون : إن معنى الآية أنه لا يتكلم أحد في الآخرة بكلام نافع من شفاعة ووسيلة إلا بإذنه.
وهذا إرجاع للآية بحسب المدلول إلى مثل قوله تعالى : « يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ » : طه : ١٠٩ وفيه أن ذلك تقييد من غير شاهد عليه ولو كان المراد ذلك لكان من حق الكلام أن يقال : لا تكلم نفس عن نفس أو في نفس إلا بإذنه كما وقع في نظيره من قوله : « لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً ».
وقد تحصل مما قدمناه وجه الجمع بين الآيات المثبتة للتكلم يوم القيامة والآيات النافية له.
توضيحه : أن الآيات المتعرضة لمسألة التكلم فيه صنفان : صنف ينفي التكلم أو يثبته لأفراد الناس من غير استثناء كقوله : « لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ » : الرحمن : ٣٩ ،