وقوله : « مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ » الحصد قطع الزرع ، شبهها بالزرع يكون قائما ويكون حصيدا ، والمعنى إن كان المراد بالقرى نفسها أن من القرى التي قصصنا أنباءها عليك ما هو قائم لم تذهب بقايا آثارها التي تدل عليها بالمرة كقرى قوم لوط حين نزول قصتهم في القرآن كما قال : « وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ » : العنكبوت : ٣٥ وقال : « وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ » : الصافات : ١٣٨ ، ومنها ما انمحت آثاره وانطمست أعلامه كقرى قوم نوح وعاد.
وإن كان المراد بالقرى أهلها فالمعنى أن من تلك الأمم والأجيال من هو قائم لم يقطع دابرهم البتة كأمة نوح وصالح ، ومنهم من قطع الله دابرهم كقوم لوط لم ينج منهم إلا أهل بيت لوط ولم يكن لوط منهم.
قوله تعالى : « وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ » إلى آخر الآية ، أي ما ظلمناهم في إنزال العذاب عليهم وإهلاكهم إثر شركهم وفسوقهم ولكن ظلموا أنفسهم حين أشركوا وخرجوا عن زي العبودية ، وكلما كان عمل وعقوبة عليه كان أحدهما ظلما إما العمل وإما العقوبة عليه فإذا لم تكن العقوبة ظلما كان الظلم هو العمل استتبع العقوبة.
فمحصل القول أنا عاقبناهم بظلمهم ولذا عقبه بقوله : « فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ » إلخ .. لأن محصل النظم أخذناهم فما أغنت عنهم آلهتهم ، فالمفرع عليه هو الذي يدل عليه قوله : « وَما ظَلَمْناهُمْ » إلخ ، والمعنى أخذناهم فلم يكفهم في ذلك آلهتهم ، التي كانوا يدعونها من دون الله لتجلب إليهم الخير وتدفع عنهم الشر ، ولم تغنهم شيئا لما جاء أمر ربك وحكمه بأخذهم أو لما جاء عذاب ربك.
وقوله : « وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ » التتبيب التدمير والإهلاك من التب وأصله القطع لأن عبادتهم الأصنام كان ذنبا مقتضيا لعذابهم ولما أحسوا بالعذاب والبؤس فالتجئوا إلى الأصنام ودعوها لكشفه ودعاؤها ذنب آخر زاد ذلك في تشديد العذاب عليهم وتغليظ العقاب لهم فما زادوهم غير هلاك.
ونسبة التتبيب إلى آلهتهم مجاز وهو منسوب في الحقيقة إلى دعائهم إياها ، وهو عمل قائم بالحقيقة بالداعي لا بالمدعو.
قوله تعالى : « وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ »