ويؤيده قوله بعد : « ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً » إذ لو كان المراد بالإنسان ابن آدم فحسب وكان المراد بخلقه من طين انتهاء النطفة إلى الطين لكان الظاهر أن يقال : ثم خلقناه نطفة كما قيل : ( ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً ) إلخ.
وبذلك يظهر أن قول بعضهم : إن المراد بالإنسان جنس بني آدم ، وكذا القول بأن المراد به آدم عليهالسلام غير سديد.
وأصل الخلق كما قيل التقدير يقال : خلقت الثوب إذا قسته لتقطع منه شيئا من اللباس فالمعنى ولقد قدرنا الإنسان أولا من سلالة من أجزاء الأرض المخلوطة بالماء.
قوله تعالى : « ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ » النطفة القليل من الماء وربما يطلق على مطلق الماء والقرار مصدر أريد به المقر مبالغة والمراد به الرحم التي تستقر فيها النطفة ، والمكين المتمكن وصفت به الرحم لتمكنها في حفظ النطفة من الضيعة والفساد أو لكون النطفة مستقرة متمكنة فيها.
والمعنى ثم جعلنا الإنسان نطفة في مستقر متمكن هي الرحم كما خلقناه أولا من سلالة من طين أي بدلنا طريق خلقه من هذا إلى ذاك.
قوله تعالى : « ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ـ إلى قوله ـ فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً » تقدم بيان مفردات الآية في الآية ٥ من سورة الحج في الجزء السابق من الكتاب وفي قوله : « فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً » استعارة بالكناية لطيفة.
قوله تعالى : « ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ » الإنشاء كما ذكره الراغب ـ إيجاد الشيء وتربيته كما أن النشء والنشأة إحداثه وتربيته كما يقال للشاب الحديث السن ناشئ.
وقد غير السياق من الخلق إلى الإنشاء فقال : « ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ » دون أن يقال : ثم خلقناه إلخ ، للدلالة على حدوث أمر حديث ما كان يتضمنه ولا يقارنه ما تقدمه من مادة فإن العلقة مثلا وإن خالفت النطفة في أوصافها وخواصها من لون وطعم وغير ذلك إلا أن في النطفة مكان كل من هذه الأوصاف والخواص ما يجانسه وإن لم يماثله كالبياض مكان الحمرة وهما جميعا لون بخلاف ما أنشأه الله أخيرا وهو الإنسان الذي له حياة وعلم وقدرة فإن ما له من جوهر الذات وهو الذي نحكي عنه بأنا لم يسبق من سنخه في المراحل السابقة أعني النطفة والعلقة والمضغة والعظام المكسوة لحما شيء ،