وفي كلامه هذا دليل على أن والدته من أهل الصراط المستقيم الذين أنعم الله عليهم (١) وهم إحدى الطوائف الأربع المذكورين في قوله تعالى : « الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ » النساء : ٦٩.
وقوله : « وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ » عطف على قوله : « أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ » ومسألته هذه : « أوزعني أن أعمل » إلخ ، أمر أرفع قدرا وأعلى منزلة من سؤال التوفيق للعمل الصالح فإن التوفيق يعمل في الأسباب الخارجية بترتيبها بحيث توافق سعادة الإنسان والإيزاع الذي سأله دعوة باطنية في الإنسان إلى السعادة ، وعلى هذا فليس من البعيد أن يكون المراد به الوحي الذي أكرم الله به إبراهيم وآله فيما يخبر عنه بقوله : « وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ » الآية : الأنبياء : ٧٣ ، وهو التأييد بروح القدس على ما مر في تفسير الآية.
وقوله : « وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ » أي اجعلني منهم ، وهذا الصلاح لما لم يتقيد بالعمل كان هو صلاح الذات وهو صلاح النفس في جوهرها الذي يستعد به لقبول أي كرامة إلهية.
ومن المعلوم أن صلاح الذات أرفع قدرا من صلاح العمل ففي قوله : « وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ » تدرج في المسألة من الأدنى إلى الأعلى وقد كان صلاح العمل منسوبا إلى صنعه واختياره بوجه دون صلاح الذات ولذا سأل صلاح الذات من ربه ولم يسأل نفس صلاح العمل بل أن يوزعه أن يعمل.
وفي تبديله سؤال صلاح الذات من سؤال أن يدخله في عباده الصالحين إيذان بسؤاله ما خصهم الله به من المواهب وأغزرها العبودية وقد وصفه الله بها في قوله : « نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ » ص : ٣٠.
قوله تعالى : « وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ » قال الراغب : التفقد التعهد لكن حقيقة التفقد تعرف فقدان الشيء والتعهد تعرف العهد
__________________
(١) وفيه تبرئة ساحتها عما في التوراة أنها كانت امرأة أوريا فجر بها داود ثم كاد في قتل أوريا فقتل في بعض الحروب فأدخلها في أزواجه فولدت له سليمان.