واعتبر القرب أيضا وصفا للعباد في مرحلة العبودية ولما كان أمرا اكتسابيا يستعمل فيه لفظ التقرب فالعبد يتقرب بصالح العمل إلى الله سبحانه وهو وقوعه في معرض شمول الرحمة الإلهية بزوال أسباب الشقاء والحرمان ، والله سبحانه يقرب العبد بمعنى إنزاله منزلة يختص بنيل ما لا يناله من دونه من إكرامه تعالى ومغفرته ورحمته ، قال تعالى : « كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ » المطففين : ٢١ ، وقال : « وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ » المطففين : ٢٨.
فالمقربون هم النمط الأعلى من أهل السعادة كما يشير إليه قوله : « وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ » ولا يتم ذلك إلا بكمال العبودية كما قال : « لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ » النساء : ١٧٢ ، ولا تكمل العبودية إلا بأن يكون العبد تبعا محضا في إرادته وعمله لمولاه لا يريد ولا يعمل إلا ما يريده وهذا هو الدخول تحت ولاية الله فهؤلاء هم أولياء الله.
وقوله : « فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ » أي كل واحد منهم في جنة النعيم فالكل في جنات النعيم ، ويمكن أن يراد به أن كلا منهم في جنات النعيم لكن يبعده قوله في آخر السورة : « فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ ».
وقد تقدم غير مرة أن النعيم هي الولاية وأن جنة النعيم هي جنة الولاية وهو المناسب لما تقدم آنفا أن المقربين هم أهل ولاية الله.
قوله تعالى : « ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ » الثلة ـ على ما قيل ـ الجماعة الكثيرة ، والمراد بالأولين الأمم الماضون للأنبياء السابقين ، وبالآخرين هذه الأمة على ما هو المعهود من كلامه تعالى في كل موضع ذكر فيه الأولين والآخرين معا ومنها ما سيأتي من قوله : « أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ » فمعنى الآيتين : هم أي المقربون جماعة كثيرة من الأمم الماضين وقليل من هذه الأمة.
وبما تقدم يظهر أن قول بعضهم : إن المراد بالأولين والآخرين أولوا هذه الأمة وآخروها غير سديد.
قوله تعالى : « عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ » الوضن النسج وقيل : نسج الدرع وإطلاقه على نسج السرر استعارة يراد بها إحكام نسجها.
وقوله : « مُتَّكِئِينَ عَلَيْها » حال من الضمير العائد إلى المقربين والضمير للسرر ، وقوله :