أوّلها : اتّفاق أهل العربيّة على أنّ الإِعراب بالمجاورة شاذّ نادر ولا يقاس عليه ، وإِنّما ورد مسموعاً في مواضع لا يتعدّاها إِلى غيرها ، وما هذا سبيله فلا يجوز حمل القرآن عليه من غير ضرورة تلجیء إِليه (٣٢) .
وثانيها : أنّ المجاورة لا يكون معها حرف عطف ، وهذا ما ليس فيه بين العلماء خلاف (٣٣) ، وفي وجود واو العطف في قوله تعالى : ( وَأَرْجُلَكُمْ ) دلالة على بطلان دخول المجاورة فيه ، وصحّة العطف .
وثالثها : أنّ الإِعراب بالجوار إِنّما يكون بحيث ترتفع الشبهة عن الكلام ، ولا يعترض اللّبس في معناه ، ألا ترى أنّ الشبهة زائلة والعلم حاصل في قولهم : جُحر ضبٍّ خربٍ ، بأنّ خرباً صفة للجحر دون الضبّ ، وكذلك ما أنشد في قوله : مزمّلِ ، وأنّه من صفات الكبير دون البجاد ؟ !
وليس هكذا الآية ، لأنّ الأرجل يصحّ أن يكون فرضها المسح ، كما يصحّ أن يكون الغسل ، فاللّبس مع المجاورة فيها قائم ، والعلم بالمراد منها مرتفع ، فبانَ بما ذكرناه أنّ الجرّ فيها ليس هو بالمجاورة ، والحمد لله .
فإِن قيل : كيف ادّعيتم أنّ المجاورة لا تجوز مع واو العطف ، وقد قال الله
______________________________
(٣٢) اتّفق كثير من أئمّة اللغة على أنّ الجرّ بالمجاورة ضعيف جدّاً ولا يقاس عليه ، وأنكر البعض أن يكون الجرّ بالمجاورة جائزاً في كلام العرب ، ومن جملة من أنكره السيرافي وابن جنّيّ ، وقد تأوّلا « خربٍ » في قولهم : « هذا جُحرُ ضبٍّ خربٍ » صفة للضبّ لا للجحر ، قال السيرافي : أصله « خربٍ الجحرُ منه » ثمّ حذف الضمير للعلم به ، كما تقول : « مررت برجل حسن الوجه » بالإِضافة ، والأصل : « حسن الوجه منه » .
وقال ابن جنّي : الأصل : « خرب جحره » ثمّ اُنيب المضاف إِليه عن المضاف فارتفع واستتر .
وقال الفرّاء : لا يخفض بالجوار إِلّا ما استعملته العرب .
وقال أبو إِسحاق النحوي : الجرّ بالمجاورة لا يجوز في كتاب الله عزّ وجلّ ، وإِنّما يجوز في ضرورة الشعر .
وقال جلّ النحاة : إِنّ المسموع من كلام العرب في « جحر ضبٍّ خربٍ » وغيره الرفع والجر ، والرفع في كلامهم أكثر وافصح .
اُنظر : مغني اللبيب ٢ : ٨٩٤ و ٨٩٦ ، الكتاب ١ : ٤٣٦ ، لسان العرب ٢ : ٥٩٣ ، خزانة الأدب ٥ : ٩١ ، التفسير الكبير ـ للفخر الرازي ـ ١١ : ١٦١ ، كنز العرفان ١ : ١٦ .
(٣٣) خزانة الأدب ٥ : ٩٤ و ٩ : ٤٤٤ ، مغني اللبيب ٢ : ٨٩٥ ، التفسير الكبير ـ للفخر الرازي ـ ١١ : ١٦١ .