البشرية لتركّز فيهم أخلاق الله ليكونوا ربّانيين. ولعلّ عيسى (ع) جاء بالرأفة والرحمة علاجا للقسوة التي أصابت بني إسرائيل حيث قال ربّنا عنهم : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ). (١)
وجعل الله لهما في قلوب أتباع المسيح (ع) لا يعني أبدا أنّ الله يرسل نبيّا باللطف والرحمة ، ويرسل الآخر بالشدّة والحديد ، أو أنّهم لم يفرض عليهم الجهاد بالسيف وخوض اللجج لإقامة القسط إذا كانت الظروف تستدعي ذلك ، بل يعني أنّ الحالة الاجتماعية المتردّية في القسوة والفسوق لم تكن تعالج بالسيف بل بالرحمة والرأفة ، وربما الرهبانية.
ثم يبيّن القرآن تجربة مهمّة من تجارب أتباع عيسى (ع) : لقد ظهرت الجبابرة والطغاة من بعد عيسى ، وصارت مسيرة الأكثرية من الناس إلى الفسوق والقسوة مما شاة لملوكهم ، واتباعا للتحريف والبدع ، فاختلفوا على مذاهب شتّى ، حيث سكت الأغلبية عن الطغاة ، واتبعوا أدعياء الدّين ، إلّا أنّ قليلا منهم قرّر التحدي ولكن كيف؟
إنّهم يواجهون نوعين من التحدي : التحدي السياسي ، والتحدي الاجتماعي المدعوم بقشور الدّين المحرّف ، وأمام كلّ ذلك يجب عليهم أن يحافظوا من جهة على مسيرتهم فلا يتابعون الطغاة أو يستسلمون للدين المحرّف ، ومن جهة أخرى يجب أن يحافظوا على أنفسهم الّا يبادوا ، فوقع اختيارهم على الرهبانية التي تعني توثيق العلاقة بالله ، واعتزال المجتمع الضّال. هذه كانت خطتهم التي يرون فيها السبيل
__________________
(١) البقرة / ٧٤