أخرى استغلوا القسمة لهدف إيجاد الاختلاف والفرقة بين المؤمنين ، بالذات باعتبار أن الظاهر كان يمكن تجييره لصالح التفرقة لاختلاف المهاجرين والأنصار ، وعموما تتأسس سياسات التفرقة دائما على المظاهر المادية كاللون والمذهب والقومية والطائفية ، وطالما أظهر المنافقون وعلى رأسهم عدو الله ابن أبي للأنصار أنهم يريدون خيرهم من وراء موقفهم ، وطالما استثاروا فيهم الوطنية وشح النفس ليكسبوهم ، ولكنهم رفضوا ذلك لأنهم كانوا أصحاب البصيرة النافذة ، والإيمان الرفيع ، والتسليم المطلق لقيادة الحق.
أما الرسول فقد جمعهم وقال : إن شئتم قسمتم للمهاجرين من دوركم وأموالكم ، وقسمت لكم من الغنيمة كما قسمت لهم (أي أساوي بينكم) وإن شئتم كان لهم الغنيمة ولكم دياركم وأموالكم (أي يخرجون من أموالكم ودوركم ويصير لهم الفيء خالصا) فقالوا : لا بل نقسم لهم من ديارنا وأموالنا ولا نشاركهم في الغنيمة (١) ففشل المنافقون ، وهكذا تنتصر كل أمّة على محاولات التفرقة حينما تتبع قائدها ، وتلتزم بالقيم الحق ، وتعيش فيما بينهما الألفة والحب والإخاء ، وقد سجل ربنا هذا الموقف الجليل كرامة للأنصار ، وليكون نموذجا على ما يصنعه الإسلام بالنفوس ، وليبين للبشرية جيلا بعد جيل وللأمة الاسلامية بالذات سر انتصاراتها في التاريخ وسبيلها الى ذلك ، وأنّ الرعيل الأول من المخلصين إنما قاد العالم يومئذ بهذه الروح الإيمانية السامية ، فقال عزّوجلّ :
(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ)
يعني الأجيال المؤمنة السابقة من الأنصار ، وقالوا : معنى الآية : تبوؤا الدار ، وأخلصوا الإيمان ، أو اتخذوا الإيمان وطنا ، وتمكنوا منه ، مثلهم مثل سلمان لما سألوه
__________________
(١) التفسير الكبير / ص ٢٨٧ الموضع