وليس الذين يرفعون شعارات الجهاد وحسب. والقتال (الجهاد) قمّة العمل الصالح حيث يعرّض المؤمن نفسه لألوان المخاطر في سبيل ربّه. ثم إنّ أحبّاء الله لا يقاتلون ليبلغوا مصالحهم وشهواتهم المادية ، إنّما يجاهدون مخلصين في إطار الحق ولتحقيق أهدافه النبيلة متمحّضين لذلك ، فلا ترى بينهم أدنى حقد ضد بعضهم ، ولا ثغرة في جبهتهم الواحدة ، إنّما يقفون كما يصفهم الله :
(صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ)
فوحدتهم ظاهرة كالبنيان المتصل ببعضه ، وهي حقيقة لأنّها متينة في الواقع ، فليست كأيّ بناء إنّما كالبنيان المتماسك تماسكا متينا ، وقيل : كالبنيان المبني بالرصاص. ولا تعني هذه الآية أنّه لا يوجد أيّ اختلاف بين المؤمنين ، لأنّ الخلاف طبيعي ، ولكنّه لا يتحوّل إلى صراع بينهم ، ثم إنّه يتلاشى عند ظروف التحدي فتراهم جميعا ينصهرون في بوتقة الوحدة لتصبح الجهود والطوائف والجماعات كلّها أمة واحدة لا يجد الأعداء فيها ثغرة ينفذون منها. ويحثّ المؤمنين للتوحّد صفّا واحدا في القتال علمهم بمدى أثر عامل الوحدة واجتماع الجهود في ترجيح ميزان الصراع لمصلحة الحق. وليس من شيء يوحّد الناس كما يوحّدهم الوحي والإمام العامل به إذا سلموا لهما ، وهكذا يحدّثنا السياق فيما يلي عن ثلاثة من أعظم أنبياء الله ـ عليهم السلام ـ.
[٥] إنّ شرط الإنتصار أن يكون القتال صفّا واحدا ، وشرط الصف أن يكون القتال تحت راية القيادة الرسالية ، وإنّما يكون للقيادة اعتبارها العملي حينما يسلّم لها المجتمع ، لذلك فإنّ أعظم ما يمكن أن يلحق القيادة من الأذى هو عدم الطاعة لها ، وهذا ما لقيه نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ من قومه ، وهم يعلمون أنّ نبيهم هو صاحب الولاية الشرعية من عند الله سبحانه وأنّ طاعته مفروضة عليهم.