(وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ)
وفي الآية ملاحظة أدبيّة رفيعة حيث لم يقل الله مباشرة : «وَاللهُ يَشْهَدُ) ..» ، إنّما قدّم قوله : «وَاللهُ يَعْلَمُ) ..» ، وذلك ليؤكّد رسالة نبيه بعلمه من جهة ، وليؤكّد كذب المنافقين في ادعائهم الإيمان والولاء من خلال شهادتهم بشهادته دون نفي ما شهدوا عليه. فليس الكذب هنا بمعنى مخالفة الكلام للواقع ، إذ رسالة النبي حق وهم عبروا عنها ، ولكنّ الكذب بمعنى مخالفة لازم الكلام لواقعهم وهو اعتقادهم بالرسالة وبلوغهم مستوى الشهادة عليها ، ولكن لماذا لم يقل ربنا : (والله يشهد إنّك لرسوله)؟ ربما لأن علم الله كله علم حضوري بالغ مستوى الشهادة ، بينما الشهادة عندنا كبشر تختلف عن العلم إذ لها مفهوم أوسع منه ، لأن العلم يحصل بطرق مختلفة ، أمّا الشهادة فلا تكون إلّا بالحضور والمعاينة وهو مستوى رفيع من العلم.
[٢] الكذّاب يحتاط لنفسه بمبالغة لفظية يغطي بها خواء كلامه ، والدّين لا يعترف بالادعاءات والتمنّيات لأنّه دين الواقعيات والمصاديق (١) ، ولذلك يمكن فضح كل دعوى كاذبة يصطنعها المنافقون (٢).
ولأنّ الكذب هو مخالفة الكلام أو الادعاء مع الحقيقة فإنّ المنافقين كاذبون ، لأنّهم لا يلتزمون بمقتضيات الولاء للقيادة والإيمان بها ، بل يخالفون شهادتهم في سلوكهم تجاه القيادة الرسالية.
(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ)
__________________
(١) حينما نراجع مادة (صدق والصادقين) ونقرأ الآيات التي وردت فيها هذه المفردة تتضح لنا هذه الحقيقة وهي أنّ الإسلام لا يكتفي بمجرد الادعاء بل يطالب بالمصداق ويضع كل مدّع ولو كان مؤمنا أمام المحك العملي والامتحان ، «لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ» الأحزاب / ٨
(٢) هناك بحث للمؤلف حول شهادة الله تجده في كتاب الفكر الإسلامي مواجهة حضارية ص ٢٥٨