أنّه جاء النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ فقال : يا رسول الله إن كنت عزمت على قتله فمرني أن أكون أنا الذي أحمل إليك رأسه ، فو الله لقد علمت الأوس والخزرج أنّي أبرهم ولدا بوالدي» (١). وهذه صورة للتحول الحضاري الجديد ، وطغيان الشرعية الجديدة على الشرعية القديمة التي ليس فيها أقرب من علاقة الابن بأبيه.
ونتساءل : لماذا اختتمت الآية السابقة بأنّ المنافقين «لا يفقهون» بينما اختتمت هذه الآية بأنّهم «لا يعلمون»؟ الإجابة هي : أنّ معرفة القوانين الاقتصادية ، وأنّ المال يأتي نتيجة الجهود التي تستخرج خزائن الله في الأرض ، إنّ معرفة ذلك بحاجة إلى الفقه وهو الفهم العميق ، بينما لا تحتاج معرفة القوانين الاجتماعية ، ومنها تبدّل القيم عند الناس إلى ذلك الفهم ، بل يستطيع أيّ إنسان أن يعلمها. وهكذا نفت الآية فقه المنافقين للقوانين الاقتصادية ، ثم نفت الثانية علمهم (وهو أقل من الفقه) حتى من فهم التحوّلات الاجتماعية.
[٩] ولأنّ المنافقين يسعون لتعميق الروح المادية في المجتمع ، وبالتالي تجييره في صالح حربهم الاقتصادية السياسية ضد الإسلام والقيادة الرسالية ، نجد القرآن ينمّي في ضمير الأمة القيم المعنوية التي تستلهم من الإيمان بالآخرة ، لكي لا يقع في حبائل النفاق ، ولكي يفشل خطط المنافقين ضد الإسلام. والدعوة التالية للمؤمنين في ظروف المحنة والحرب الاقتصادية تغني بصورة أكبر أغنياءهم فإنّهم مسئولون ، والرسالة تواجه هذا اللون من التحدي أن ينهضوا بأعباء المسؤولية في دعم مسيرة القيادة والدولة والأمة الإسلامية بالمزيد من الإنفاق ، ولا يمكن ذلك إلا إذا حلّق الإنسان في سماء ذكر الله ، وترفّع عن شحّ النفس والتلهّي بالأموال والأولاد.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ)
__________________
(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٣٣٤