منّا إلى مذاهب عديدة : قال المثاليون أنّ الدنيا لا واقع لها وما هي إلّا خيال ، وذهب المتصوّفة إلى أنّ الدنيا شرح محض ، وأنّ الجسم سجن الروح ، وبالتالي فإنّ وظيفة الإنسان في الحياة هي السعي الحثيث والمستمر لبناء الروح على حساب الجسد ، ولا بد لذلك من احتقار الدنيا وتجنب ما فيها لأنّها تغذي شهوات النفس المنبعثة من حاجات الجسم ، الأمر الذي يشد الروح إلى التسافل ، ويمنعها من التسامي في آفاق الملكوت المعنوي ، أو الوصول إلى رضوان الله والجنة ، وقال المادّيون أنّ الدنيا وجدت بالصدفة فليس بعدها من حياة ولا مسئولية ، انطلاقا من الكفر بالغيب ، وعليه فإنّ السعيد فيها من أطلق لنفسه العنان يتلذذ من نعيمها ما يشاء ، وعلى هذا المذهب أكثر البشرية ، وبالذات إذا اعتبرنا الموقف العملي في الحياة هو المقياس.
أمّا الرسالات الإلهية فهي تختلف عنهم جميعا ، حيث اعتبرت الحياة الدنيا مرحلة تتوسط حياة الذّر ، والحياة الآخرة ، وحيث كان الإنسان طاهرا ونظيفا وقد قطع على نفسه عهدا وميثاقا «وقد أخذ ميثاقكم» بأن يسلم لربّه ، فإنّه يجب عليه المحافظة على ذلك الطهر بالإيمان بالله والاستجابة لدعوة الرسول ، لينطلق نحو الآخرة ويبلغ الجنة من عند الله والرضوان.
إن الإنسان لن يبقى في الدنيا ولن تتوقف مسيرته بها ، إنّما ينتقل إلى سفر طويل ينتهي به إلى مقرّه الأبدي ، فعليه أن يكيّف نفسه وفق هذه الحقيقة ، فلا ينسب ذلك السفر الحتمي ، فيتعامل مع الدنيا وكأنها دار البقاء ، ولا يدع استعداده لتلك الرحلة الشاقة ، فإذا جاءت ساعته وحل أجله وهجمت منيته ، وليستمع إلى نصيحة إمامه أمير المؤمنين (عليه السلام) حين يخاطبه فيقول : «أمّا بعد فإنّ الدنيا أدبرت ، وآذنت بوداع ، وإنّ الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع ، ألا وإنّ اليوم المضمار ، وغدا السباق ، والسبقة الجنّة ، والغاية النار ، أفلا تائب من خطيئته قبل