طلبهم منه لذلك ، فيمتنع ويعصمه الله منه ، ولقد قال صلىاللهعليهوسلم «ما هممت بشيء ما كان أهل الجاهلية يهمون به إلا مرتين ، عصمني الله فيهما. وكلما دنوت من صنم لهم يصيح في رجل : امض وراءك فما قربت منه» ، حتى كان أفضل رجال قومه مروءة وأحسنهم خلقا وجوارا ، وأكرمهم حسبا ، وأعظمهم حلما ، وأصوبهم حديثا ، وأبعدهم من كل خلق دنيء ، حتى لا يسمى في قومه إلا «الأمين» لما شاهدوه من أمانته وصدقه وطهارته وصفاته العالية التي لم يشركه أحد من خلق الله فيها.
واستصحبه عمه ـ وهو ابن اثنتي عشرة سنة ـ إلى الشام ، لما جاء بصرى ورأى منه بحيري الراهب ما دل عليه ، أنه النبي المرسل خاتم الأنبياء ؛ أمره بالرجوع به إلى بلاده ، ففعل. وبعد عشرين سنة من مولده أو دونها حضر مع عمومته حرب الفجار ورمى فيه بأسهم ، وحلف الفضول ، الذي عقدته قريش على نصر كل مظلوم بمكة. وكان صلىاللهعليهوسلم يرعى غنم أهله بأجياد على قراريط ، ثم مضى الشام أيضا مع ميسرة ، فتى خديجة ابنة خويلد بن أسد في تجارة لها ، فرأى مما خصه الله به ما يسترشد به المتنبه ، فلما عاد حدثها به. وكانت امرأة حازمة لبيبة شريفة ، فرغبت في تزوجه لها ، فتزوجها وهو ابن خمس وعشرين سنة وهي ابنة أربعين ، فكانت له وزير صدق ، وعبيرة مسك ثم بعد مضي عشر سنين ، أخذت قريش في بناء الكعبة لأمر اقتضاه ، فاختلفت قبائلها فيمن يضع الحجر الأسود ، فاختاروه ، فأشار ببسط ردائه على الأرض فوضعه عليه ، وترفع كل قبيلة طرفا منه ، ففعلوا ذلك ، فلما انتهوا به إلى محله أخذه الأمين المكين بيده الميمونة ، فوضعه ، وذلك يوم الاثنين. ولما انتهى صلىاللهعليهوسلم لأربعين سنة جاءه جبريل عليهالسلام في يوم الاثنين ثامن شهر ربيع الأول ، وهو بغار حراء ، إذ كان يخلو به ، فيبتعد فيه ، فأقرأه أول سورة العلق فرجع بها رسول الله صلىاللهعليهوسلم يرجف فؤاده.
ودخل على خديجة ، فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، ثم أعلمها بالخبر ، وقال لها «لقد خشيت على نفسي» ، فقالت له : «أبشر ، كلا والله ، ما يخزيك الله أبدا ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق».
ثم ذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل بن أسد. فأعلمه بما أعلمها به ، فقال له «هذا هو الناموس الذي أنزله الله تعالى على موسى عليهالسلام» وآمن هو وخديجة به ، وقال «إن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا».
ثم لم يلبث ورقة أن توفي.
وفتر الوحي ، فلما كان بعد أشهر أنزل الله عزوجل عليه (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ