فضّلها الله ورعاها ، وأخرج منها ماءها ومرعاها. فجانبها مريع ، وخيرها سريع ، ووضعها له في فقه الفضائل تفريع. عدل فيها الزمان ، وانسدل الأمان ، وفاقت الفواكه فواكهها ولا سيّما الرّمّان ، وحفظ أقوالها الاختزان ، ولطفت فيها الأواني والكيزان ، واعتدل للجسوم الوزان ، ودنا من الحضرة جوارها ، فكثر قصّادها من الفضلاء وزوّارها. وبها المدارس والفقهاء ، ولقصبتها الأبّهة والبهاء ، والمقاصير والأبهاء. إلا أن طينها ضحضاح ، لذي الظرف فيه افتضاح ، وأزقّتها لا يفارقها القذر ، وأسواقها يكثر بها الهذر ، وعقاربها لا تبقي ولا تذر ، ومقبرتها لا يحتجّ عن إهمالها ولا يعتذر.
قلت فمدينة فاس (٤٧٨) ، فقال رعى الله قطرا تربه ينبت الغنى ، وآفاقه
__________________
(٤٧٨) مدينة فاس : Fez ، أسسها الأمير إدريس الأول ١٧٢ ه (٧٨٩ م). على أن المؤسس الحقيقي لهذه المدينة هو ابنه إدريس الثاني باعتراف جميع المؤرخين. ففي أوائل عهد هذا الأخير ، هاجر إلى المغرب الأقصى عدد كبير من أهل الربض بضواحي قرطبة. وذلك بعد أن ثاروا على أميرهم الأموي الحكم بن هاشم واضطر إلى طردهم نهائيا من الأندلس.
ولقد رحب الأمير إدريس الثاني بهؤلاء الربضيين اللاجئيين ، وعرض عليهم الإقامة في مدينة فاس الناشئة ، فاستجابوا إلى طلبه وانتقلوا إلى عاصمة الأدارسة ونقلوا معهم مظاهر الحضارة الأندلسية الراقية خصوصا وأن معظمهم كانوا من أهل الحرف والصناعة والزراعة ، فأعطوا المدينة طابعا أندلسيا جميلا في صناعتها أو في أبنيتها الأندلسية البيضاء ذات الحدائق الداخلية في أحواشها. (Los Patios) وهكذا سيطر الأندلسيون على مدينة فاس لدرجة أنها سمّيت باسمهم وعرفت بمدينة الأندلسيين.
في ذلك الوقت أيضا كان الأمير إدريس الثاني ، قد أسس مدينة مقابلة لمدينة فاس ولا يفصلها عنها سوى نهير صغير ، وأسماها العالية ، وسكنها جماعة من عرب إفريقية (المغرب الأدنى) من نواحي مدينة القيروان ولهذا سمّيت بمدينة القرويين ، (نسبة للقيروان) ، وبمضي الزمن غلب اسم فاس على المدينتين وصارت تشمل عدوة القرويين وعدوة الأندلسيين. ولا يزال جامع القرويين ... الكعبة العلمية التي يؤمها طلاب من سائر أنحاء المغرب.
وحينما استولى المرابطون على المغرب ، نزلوا فاس أول الأمر ثم بنوا مدينة مراكش وجعلوها قاعدة لملكهم لقربها من موطنهم الأصلي بالجنوب ، ثم أتى الموحّدون بعدهم فنزلوا مدينة مراكش أيضا واتخذوها دارا لملكهم للغرض نفسه. ثم جاء ملوك بني مرين فاتخذوا مدينة فاس عاصمة لهم ، وبنى الأمير أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق المريني بالقرب منها مدينة فاس الجديدة سنة ٦٧٤ ه (١٢٧٥ م) واتخذها عاصمة ملكه وكانت تسمّى بالمدينة البيضاء وبالبلد الجديد والمدينة الجديدة.
انظر كذلك (ابن أبي زرع الفاسي : الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس. ونشره وترجمه إلى اللاتينية المستشرق طرنبرغ C.Tornberg (Upsala ٣٤٨١ ـ ٦٤٨١) ـ