تناصف الحرّ والبرد ، وتبسّم الزهر وخجل الورد ، وكسا غدرانها الحائرة الحلق السرد ، قلت انجز للمتقين من الجنّة الوعد ، وساعد العسد ، وما قلت إلا بالذي علمت سعد. ومنارها العلم في الفلاة ، ومنزلته في المآذن منزلة والي الولاة ، إلا أن هواءها محكم في الجباه والجنوب ، يحمي عليها بكير الجنوب ، وحمياها كلفة بالجسوم ، طالبة ديونها بالرسوم ، وعقاربها كثيرة الدبيب ، منغّصة مضاجعة الحبيب. وخرابها موحش هائل ، وبعد الأقطار عن كثير من الأوطار بها حائل ، وعدوّها ينتهب في الفتن أقواتها ، وجرذان المقابر تأكل أمواتها. وكانت أولى المنازل بالإغياء (٤٧٥) لو أنها اليوم معدودة في الأحياء.
قلت فأغمات (٤٧٦) ، قال بلدة لحسنها الاشتهار ، وجنّة تجري من تحتها الأنهار ، وشمامة تتضوع منها الأزهار ، متعددة البساتين ، طامية بحار الزياتين ، كثيرة الفواكه والعنب والتين. خارجها فسيح ، والمذانب فيه تسيح ، وهواؤها صحيح ، وقبولها بالغريب شحيح ، وماؤها نمير ، وماء وردها ممدّ للبلاد وممير. إلا أن أهلها يوصفون بنوك وذهول ، بين شبان وكهول ، وخرابها يهول ، وعدوّها تضيق لكثرته السهول ، وأموالها لعدم المنعة في غير ضمان ، ونفوسها لا تعرف طعم أمان.
قلت فمدينة مكناسة (٤٧٧) ، قال مدينة أصيلة ، وشعب المحاسن وفصيلة ،
__________________
(٤٧٥) الإغياء : بلوغ الغاية في الشرف والأمر.
(٤٧٦) مدينة أغمات Agmet وتقع في جنوب مدينة مراكش على سفوح جبال أطلس (انظر صفحة ٩٣ حاشية ٣ من هذا الكتاب).
(٤٧٧) مكناسة :(Mequinez) بكسر الميم وسكون الكاف. إحدى مدن المغرب الأقصى ، في جنوب غرب فاس سمّيت باسم قبيلة مكناسة البربرية التي اختطتها. وقد ازدهرت هذه المدينة أيام بني مرين ، ولا تزال بها مدرسة السلطان أبي عنان فارس ، تلفت الأنظار. ولهذه المدينة تاريخ حافل مجيد ، ولهذا عنى بها المؤرخون ، فكتبوا عنها كتبا كثيرة ، نذكر منها : (كتاب الروض الهتون في أخبار مكناسة الزيتون) لمحمد بن أحمد بن غازي العثماني المكناسي (فاس ١٣٢٦) ؛ وكتاب (إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس) للمولى عبد الرحمن بن زيدان. طبع منه خمسة أجزاء بالمغرب.
انظر (التعريف بابن خلدون ص ٢٢١ حاشية ٣) والاستزادة في هذا الموضوع راجع : (Monographie de Mequinez, Journal Asiatique ٥٥٨١, I, p. ١٠١ ـ ٧٤١)
راجع كذلك (C.Brockelmann : Gesch der Arab.Lit.II ,p.٠٤٢)