قد استدار بها لحلق السور الأمر العجاب ، والقطر الذي يحار في ساحته النجاب ، فضرب منه على عذارها الحجاب ، باطنه فيه الرحمة ، وظاهره من قبله العذاب. يحيط بها مرحلة راكب ، ويصيّرها سماء مخضرة ذات كواكب. فمنازلها لا تنال بهوان ، وفدنها ودمنها تحت صوان ، ونخلها تظل من خلف الجدار ، وتتبوأ الإيمان والدار ، وحللها مبثوثة بين الدمن ، وضياعها تتملك على مرّ الزمن ، وسوائمها آلفة للسمن ، موجودة بنزر الثمن ، وفواكهها حميمة ، ونعمتها عميقة ، وسورها حصين مشيّد ، وجسرها يعجز عن مثله معتصم ورشيد ، وسقيها يخص دار الملك بحط معلوم ، ويرجع إلى وال يكف كل ظلوم. وهي أم البلدان ، المجاورة لخدود السودان فتقصدها بالتبر القوافل ، وتهدي إلى محاربها النوافل. والرفاهية بها فاشية ، والنشا في الحلية ناشية ، لكنها معركة غبار ، وقتيل عقربها جبار (٤٨٨) ، ولباسها خامل ، والجفاء بها شامل ، والجو يسفر عن الوجه القطوب ، والمطر معدود من الخطوب ، لبناء جدرانها بالطوب ، والقرع بؤوس أهلها عابث ، والعمش في جفونهم لابث ، والخصا يصيبهم ، ويتوفر منه نصيبهم.
قلت فتازا (٤٨٩) ، قال بلد امتناع ، وكشف قناع ، ومحل ريع وإيناع ، ووطن طاب ماؤه ، وصحّ هواؤه ، وبان شرافه واعتلاؤه ، وجلّت فيه مواهب الله وآلاؤه. عصيره مثل ، وأمر الخصب به ممتثل ، وفواكهه لا تحصى ، يمار بها البلد الأقصى ، وحبوبه تدوم على الخزن ، وفخاره آية في لطافة الجرم وخفّة الوزن ، إلا أن ريحه عاصف ، وبرده لا يصفه واصف ، وأهله في وبال ، من معرّة أهل الجبال ، وليوثه مفترسة ، وأخلاق أهله شرسة.
__________________
(٤٨٨) الجبار : الهدر ، يقال ذهب دمه جبارا أي هدرا دون أن يؤخذ بثأره.
(٤٨٩) تازا (تازة) Taza تقع في شرق مدينة فاس بنحو ١٢٧ ك. م ، وتمتاز هذه المدينة بموقع استراتيجي ممتاز جعلها منذ أقدم العصور مركزا حربيا له خطورته. ولمكانتها الحربية اتخذها الحسن بن إدريس الثاني مقرا حربيا ، وعني بها عبد المؤمن الموحدي فجعلها حصنا مانعا وفي أيام بني مرين اتخذها أبو يعقوب المريني قاعدة لغزو تلمسان ولا تزال إلى اليوم مركزا حربيا له أهميته. وينسب إلى هذه المدينة علماء كثيرون.
انظر (التعريف بابن خلدون ص ١٣٤ حاشية ٢ ، تاج العروس ج ٤ ، ص ١٢)