في قلوبهم حبا عميقا ، فإنهم بعد أن أبصروا هذا المشهد المفجع ، ولعلمهم أن السلطان أعد العدة لهجوم عام ، لم ينقادوا لخانهم الجديد ، بل ساروا في طريق التمرد والعصيان ، وبلغ من غلوائهم في هذا الموقف ، أن رضوا بتسليم المدينة للترك ، على أن يسمح لهم بالخروج منها بجميع سلاحهم ومؤنهم. غير أن الترك لم يحافظوا على كلمتهم ، إذ ما إن دخلوا المدينة حتى أشار الباشا على السلطان أن يضعف قوة الفرس ، بأن يعمل السيف في رقاب كل الجنود الذين كانوا في المدينة ، فوقعت حينذاك مذبحة ذريعة بلغت ضحاياها زهاء عشرين ألف نسمة ذهبت غدرا. واستولى الترك على دير الكبوشيين ، ولكن السنيور ميخائيل رئيس المدفعية أفلح في إعادته إليهم.
أما عن الحكومة المدنية في بغداد ، فليس فيها غير قاض تناط به كل الأعمال ، حتى منصب المفتي ، ومعه دفتردار يتسلم واردات السلطان. وفي بغداد خمسة جوامع : اثنان منها مبنيان بهندسة بديعة ، تزينها قباب مكسوة بالقرميد المدهون ذي الألوان المختلفة. وفيها أيضا عشر خانات بناؤها حقير ما خلا اثنتين منها ينال فيهما المسافرون قسطا من الراحة. وبالإجمال ، إن المدينة ساذجة البناء ، لا جمال فيها ، اللهم إذا استثنينا أسواقها المسقفة ، ولو لا ذلك لما استطاع التجار تحمل حرارة الصيف. وترش الأسواق ثلاث أو أربع مرات في اليوم ، يرشها قوم يتقاضون أجورهم من عموم أهل السوق. وتجارة المدينة رائجة ، ولكن ليست بما كانت عليه في أيام ملك فارس. لأنه عند ما استولى عليها الترك ، اغتالوا كثيرا من أثرياء التجار. ومع ذلك ، فإن الناس يتوافدون عليها من كل حدب وصوب ، ولا أدري أكان ذلك للتجارة أم للعبادة ، فإن شيعة علي (Haly) يعتقدون أن عليا عاش في بغداد (١). ثم إن كل من يرغب في الحج إلى مكة برا ، عليه أن يمر ببغداد ، وعلى كل حاج حينذاك أن يدفع إلى باشا بغداد أربعة قروش. ومما يجدر ذكره ، ان في بغداد مذهبين إسلاميين ، هما مذهب الشيعة ومذهب السنة ، وهؤلاء يشبهون في أحوالهم سكان القسطنطينية.
__________________
(١) لا نعلم من أين نقل المؤلف هذا الزعم الغريب!.