والتّاء فيه للتّأكيد ، و (ما) موصولة عامّة ، أي : ما يشاء من مؤمنين أو كافرين على ما تقتضيه حكمته ، وهذا تعريض بالاستئصال لأنّ ظاهر الضّمير يفيد العموم.
والتّشبيه في قوله : (كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) تشبيه في إنشاء موجودات بعد موجودات أخرى ، لا في كون المنشئات مخرجة من بقايا المعدومات ، ويجوز أن يكون التّشبيه في إنشاء موجودات من بقايا معدومات كما أنشأ البشر نشأة ثانية من ذرّية من أنجاهم الله في السّفينة مع نوح عليهالسلام ، فيكون الكلام تعريضا بإهلاك المشركين ونجاة المؤمنين من العذاب.
وكاف التّشبيه في محلّ نصب نيابة عن المفعول المطلق ، لأنّها وصف لمحذوف تقديره : استخلافا كما أنشأكم ، فإنّ الإنشاء يصف كيفية الاستخلاف. و (مِنْ) ابتدائية ، ومعنى الذرّية واشتقاقها تقدّم عند قوله تعالى : (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) في سورة البقرة [١٢٤].
ووصف (قَوْمٍ) ب (آخَرِينَ) للدّلالة على المغايرة ، أي قوم ليسوا من قبائل العرب ، وذلك تنبيه على عظيم قدرة الله تعالى أن ينشئ أقواما من أقواما يخالفونهم في اللّغة والعوائد والمواطن ، وهذا كناية عن تباعد العصور ، وتسلسل المنشآت لأنّ الاختلاف بين الأصول والفروع لا يحدث إلّا في أزمنة بعيدة ، فشتّان بين أحوال قوم نوح وبين أحوال العرب المخاطبين ، وبين ذلك قرون مختلفة متباعدة.
(إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤))
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) [الأنعام : ١٣٣] فإنّ المشيئة تشتمل على حالين : حال ترك إهلاكهم ، وحال إيقاعه ، فأفادت هذه الجملة أنّ مشيئة الله تعلّقت بإيقاع ما أوعدهم به من الإذهاب ، ولك أن تجعل الجملة استئنافا بيانيا : جوابا عن أن يقول سائل من المشركين ، متوركا بالوعيد : إذا كنّا قد أمهلنا وأخّر عنّا الاستئصال فقد أفلتنا من الوعيد ، ولعلّه يلقاه أقوام بعدنا ، فورد قوله : (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ) مورد الجواب عن هذا السّؤال النّاشئ عن الكلام السّابق بتحقيق أنّ ما أوعد به المشركون ، واقع لا محالة وإن تأخّر.
والتّأكيد بأن مناسب لمقام المتردّد الطالب ، وزيادة التّأكيد بلام الابتداء لأنّهم متوغّلون في إنكار تحقّق ما أوعدوا به من حصول الوعيد واستسخارهم به ، فإنّهم قالوا : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ