ببعد المسألة (١) ، فأساء الظنّ بالمنطق ، وزعم أن لا طريق إلى إصابة الواقع يؤمن معه الخطأ في الفكر ولا سبيل إلى العلم بشيء على ما هو عليه. وهذا ـ كما ترى ـ قضاء بتّيّ منه بامور كثيرة ، كتباين أفكار الباحثين وحججهم من غير أن يترجّح بعضها على بعض ، واستلزام ذلك قصور الحجّة مطلقا عن إصابة الواقع ، فعسى أن يرجع بالتنبيه عن مزعمته ، فليعالج بإيضاح القوانين المنطقيّة وإراءة قضايا بديهيّة لا تقبل الشكّ في حال من الأحوال ، كضرورة ثبوت الشيء لنفسه وامتناع سلبه عن نفسه ، وليبالغ في تفهيم معاني أجزاء القضايا ، وليؤمر أن يتعلّم العلوم الرياضيّة.
وهناك طائفتان من الشكّاكين دون من تقدّم ذكرهم. فطائفة يسلّمون الإنسان وإدراكاته ويظهرون الشكّ فيما وراء ذلك ، وطائفة اخرى تفطّنوا بما في قولهم : «نحن وإدراكاتنا» من الاعتراف بأنّ للواحد منهم علما بوجود غيره من الأناسيّ وإدراكاتهم ، ولا فرق بين هذا العلم وبين غيره من الإدراكات في خاصّة الكشف عمّا في الخارج ، فبدّلوا الكلام من قولهم : «أنا وإدراكاتي».
ويدفعه : أنّ الإنسان ربّما يخطئ في إدراكاته ، كأخطاء الباصرة واللامسة وغيرها من أغلاط الفكر ، ولو لا أنّ هناك حقائق خارجيّة يطابقها الإدراك أو لا يطابقها لم يستقم ذلك. على أنّ كون إدراك النفس وإدراك إدراكاتها إدراكا علميّا ، وكون ما وراء ذلك من الإدراكات شكوكا مجازفة بيّنة.
ومن السفسطة قول القائل : «إنّ الّذي يفيده البحث التجربيّ أنّ المحسوسات بما لها من الوجود الخارجيّ ليست تطابق صورها الّتي في الحسّ ، وإذ كانت العلوم تنتهي إلى الحسّ فلا شيء من المعلوم يطابق الخارج بحيث يكشف عن حقيقته».
ويدفعه : أنّه إذا كان الحسّ لا يكشف عن حقيقة المحسوس على ما هو عليه
__________________
(١) ويحتمل أن تكون العبارة : «بعد المسألة» كما في بداية الحكمة.