وما كذب قط ، ولكن إذا ذهب بنو قصىّ باللواء والسقاية والحجابة والنبوّة ، فما ذا يكون لسائر قريش ، فنزلت ، وقوله (وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ) من إقامة الظاهر مقام المضمر ، للدلالة على أنهم ظلموا في جحودهم.
(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ)(٣٤)
(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ) تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم (١) وهذا دليل على أن قوله (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) ليس بنفي لتكذيبه ، وإنما هو من قولك لغلامك : ما أهانوك ولكنهم أهانونى (عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا) على تكذيبهم وإيذائهم (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) لمواعيده من قوله (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ)(وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) بعض أنبائهم وقصصهم وما كابدوا من مصابرة المشركين.
(وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)(٣٦)
كان يكبر على النبي صلى الله عليه وسلم كفر قومه وإعراضهم عما جاء به فنزل (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) ، (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) ، (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ) منفذاً تنفذ فيه إلى ما تحت الأرض حتى تطلع لهم آية يؤمنون بها (أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ) منها (بِآيَةٍ) فافعل. يعنى أنك لا تستطيع ذلك. والمراد بيان حرصه على إسلام قومه وتهالكه عليه ، وأنه لو استطاع أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم. وقيل : كانوا يقترحون الآيات فكان يورّ أن يجابوا
__________________
(١) عاد كلامه. قال : «وقوله ولقد كذبت رسل من قبلك تسلية ... الخ» قال أحمد : ولا دلالة فيه لأنه مؤتلف مع نفى التكذيب أيضا ، وموقعه حينئذ من الفضيلة أبين ، أى هؤلاء لم يكذبوك فحقك أن تصبر عليهم ولا يحزنك أمرهم ، وإذا كان من قبلك من الأنبياء قد كذبهم قومهم فصبروا عليهم ، فأنت إذ لم يكذبوك أجدر بالصبره فقد ائتلف كما ترى بالتفسيرين جميعا ، ولكنه من غير الوجه الذي استدل به فيه تقريب لما اختاره : وذلك أن مثل هذه التسلية قد وردت مصرحا بها في نحو قوله (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) فسلاه عن تكذيبهم له بتكذيب غيرهم من الأمم لأنبيائهم وما هو إلا تفسير حسن مطابق للواقع مؤيد بالنظائر ، والله أعلم.