بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٢٣)
قرأ زيد بن ثابت : ينشركم. ومثله قوله (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) ، (ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ). فإن قلت : كيف جعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر (١) ، والتسيير في البحر إنما هو بالكون في الفلك؟ قلت : لم يجعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر ، ولكن مضمون الجملة الشرطية الواقعة بعد «حتى» بما في حيزها ، كأنه قيل : يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة وكان كيت وكيت من مجيء الريح العاصف وتراكم الأمواج والظنّ للهلاك (٢) والدعاء بالإنجاء. فإن قلت : ما جواب «إذا»؟ قلت : جاءتها. فإن قلت : فدعوا؟ قلت : بدل من ظنوا ، لأنّ دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك فهو ملتبس به. فإن قلت : ما فائدة صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة؟ قلت : المبالغة ، كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ويستدعى منهم الإنكار والتقبيح. فإن قلت : ما وجه قراءة أمّ الدرداء : في الفلكي ، بزيادة ياء النسب؟ قلت : قيل هما زائدتان كما في الخارجي والأحمرى. ويجوز أن يراد به اللجّ والماء الغمر الذي لا تجرى الفلك إلا فيه.
__________________
(١) قال محمود : «إن قلت كيف جعل الكون في الفلك غاية ... الخ» قال أحمد : وهذه أيضا من نكتة التي لا يكتنه حسنها ، وقد مر لي قبل الوقوف عليها مثل هذا النظر بعينه في توأمتها ، وذلك عند قوله تعالى (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) وقد استدل الزمخشري بها لأبى حنيفة في أن الصغير يبتلى قبل البلوغ بأن يسلم إليه قدر من المال يمتحن فيه ، خلافا لمالك ، فانه لا يرى الابتلاء قبل البلوغ قال الزمخشري : ووجه الاستدلال أن الله تعالى جعل البلوغ غاية الابتلاء ، فيلزم وقوع الابتلاء قبله ضرورة كونه مغيا به. واعترضت هذا الاستدلال فيما سلف بأن المجعول غاية هو حمله ما في حيز «حتى» من البلوغ مقرونا بإيناس الرشد ، وهذا المجموع هو الذي يلزم وقوعه بعد الابتلاء ، ولا يلزم من ذلك أن يقع كل واحد من مفرديه بعد الابتلاء ، بل من الممكن أن يقع أحدهما قبل والآخر بعد ، فلا يحصل المجموع إلا بعد الابتلاء. ويوضح ذلك هذه الآية ، فانه تعالى جعل غاية تسييرهم في الفلك كونهم فيها ، مضافا إلى ما ذكر معه. ونحن نعلم أن كونهم في الفلك ـ وذلك أحد ما جعل غاية ـ متقدم على التسيير وإن كان المجموع واقعا ، كوقوع الحادثة بجملتها بعد الكون في الفلك والله أعلم. وإنما بسطت القول هاهنا لفواته ثم ، فجدد بما مضى عهدا.
(٢) قوله «والظن للهلاك» عبارة النسفي : بالهلاك. (ع)