ربه من كلاءته وعصمته إياه ، وأنهم لن يجدوا إليه سبيلا. وأما الثاني ففيه وجهان ، أحدهما : أن يراد مصاحبتهم له وما كانوا فيه معه من الحال الشديدة عليهم المكروهة عندهم ، يعنى : ثم أهلكونى لئلا يكون عيشكم بسببي غصة وحالكم عليكم غمة : أى غما وهما. والغم والغمة ، كالكرب والكربة. والثاني أن يراد به ما أريد بالأمر الأول ، والغمة السترة من غمه إذا ستره. ومنها قوله عليه السلام «ولا غمة في فرائض الله» (١) أى لا تستر ، ولكن يجاهر بها ، يعنى : ولا يكن قصدكم إلى إهلاكى مستورا (٢) عليكم ولكن مكشوفاً مشهوراً تجاهروننى به (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَ) ذلك الأمر الذي تريدون بى ، أى : أدوا إلىَّ قطعه وتصحيحه ، كقوله تعالى (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ) أو أدّوا إلىّ ما هو حق عليكم عندكم من هلاكى كما يقضى الرجل غريمه (وَلا تُنْظِرُونِ) ولا تمهلوني. وقرئ : ثم أفضوا إلىّ ، بالفاء بمعنى : ثم انتهوا إلىّ بشرّكم. وقيل هو من أفضى الرجل إذا خرج إلى الفضاء ، أى أصحروا به إلىّ وأبرزوه لي (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) فإن أعرضتم عن تذكيري ونصيحتي (فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) فما كان عندي ما ينفركم عنى وتتهموني لأجله من طمع في أموالكم وطلب أجر على عظتكم (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) وهو الثواب الذي يثيبني به في الآخرة أى : ما نصحتكم إلا لوجه الله ، لا لغرض من أغراض الدنيا (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) الذين لا يأخذون على تعليم الدين شيئا ولا يطلبون به دنيا ، يريد : أن ذلك مقتضى الإسلام ، والذي كل مسلم مأمور به. والمراد أن يجعل الحجة لازمة لهم ويبرئ ساحته ، فذكر أن توليهم لم يكن تفريط منه في سوق الأمر معهم على الطريق الذي يجب أن يساق عليه ، وإنما ذلك لعنادهم وتمرّدهم لا غير (فَكَذَّبُوهُ) فتموا على تكذيبه (٣) وكان تكذيبهم له في آخر المدّة المتطاولة كتكذيبهم في أوّلها ، وذلك عند مشارفة الهلاك بالطوفان (وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ) يخلفون الهالكين بالغرق (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) تعظيم لما جرى عليهم ، وتحذير لمن أنذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثله ، وتسلية له.
(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ)(٧٤)
(مِنْ بَعْدِهِ) من بعد نوح (رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ) يعنى هوداً وصالحاً وإبراهيم ولوطاً وشعيباً (فَجاؤُهُمْ
__________________
(١) هو طرف من حديث وائل بن حجر في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأقيال ، وفيه : «ولا يوصم في الدين ولا غمة في فرائض الله» وقال : الغمة السترة ، أى لا تستر في فرائض الله ، بل ظاهر بها.
(٢) قوله «مستورا عليكم» لعله أراد ملتبسا ، فلذا قال عليكم ، كما أشار إليه النسفي. (ع)
(٣) قوله «فتموا على تكذيبه» أى استمروا. أفاده الصحاح. (ع)