المكلفين : طاعتهم وعبادتهم ، وبسجود غيرهم : انقياده لإرادة الله وأنها غير ممتنعة عليها ، وكلا السجودين يجمعها معنى الانقياد فلم يختلفا ، فلذلك جاز أن يعبر عنهما بلفظ واحد. فإن قلت : فهلا جيء بمن دون «ما» تغليبا للعقلاء من الدواب على غيرهم؟ قلت : لأنه لو جيء بمن لم يكن فيه دليل على التغليب ، فكان متناولا للعقلاء خاصة ، فجيء بما هو صالح للعقلاء وغيرهم ، إرادة العموم (يَخافُونَ) يجوز أن يكون حالا من الضمير (١) في (لا يَسْتَكْبِرُونَ) أى : لا يستكبرون خائفين ، وأن يكون بيانا لنفى الاستكبار وتأكيداً له ، لأنّ من خاف الله لم يستكبر عن عبادته (مِنْ فَوْقِهِمْ) إن علقته بيخافون ، فمعناه : يخافونه أن يرسل عليهم عذابا من فوقهم ، وإن علقته بربهم حالا منه فمعناه : يخافون ربهم عاليا لهم قاهرا ، كقوله (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) ، (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) وفيه دليل على أنّ الملائكة مكلفون مدارون على الأمر والنهى والوعد والوعيد كسائر المكلفين ، وأنهم بين الخوف والرجاء.
(وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)(٥١)
فإن قلت : إنما جمعوا بين العدد والمعدود فيما وراء الواحد والاثنين ، فقالوا عندي رجال ثلاثة وأفراس أربعة ، لأن المعدود عار عن الدلالة على العدد الخاص. وأما رجل ورجلان وفرس وفرسان ، فمعدودان فيهما دلالة على العدد ، فلا حاجة إلى أن يقال : رجل واحد ورجلان اثنان ، فما وجه قوله إلهين اثنين (٢)؟ قلت : الاسم الحامل لمعنى الإفراد والتثنية دال على شيئين : على الجنسية والعدد المخصوص ، فإذا أريدت الدلالة على أنّ المعنىّ به منهما ، والذي يساق إليه الحديث هو العدد شفع بما يؤكده ، فدل به على القصد إليه والعنايه به. ألا ترى أنك لو قلت : إنما هو إله ، ولم تؤكده بواحد : لم يحسن ، وخيل أنك تثبت الإلهية لا الوحدانية (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) نقل للكلام عن الغيبة إلى التكلم ، وجاز لأنّ الغالب هو المتكلم ، وهو من طريقة الالتفات ، وهو أبلغ في الترهيب من قوله : وإياه فارهبوه ، ومن أن يجيء ما قبله على لفظ المتكلم.
__________________
ـ ذلك أن يكون اللفظ متواطئا فيهما جميعا ، ليسلم من الجمع بين الحقيقة والمجاز ، لأنه يأبى ذلك ، ولا ينم له هذا المقصد في الآية ـ والله أعلم ـ لأن كونها آية سجدة يدل على أن المراد من السجود المذكور فيها منسوبا للمكلفين هو الفعل الخاص المتعارف شرعا ، الذي يكون ذكره سببا لفعلة سببية معتادة في عزائم السجود ، لا القدر الأعم المشترك ، والله أعلم.
(١) قال محمود : «يجوز أن يكون حالا من الضمير ... الخ» قال أحمد : هذا الثاني هو الوجه ليس الأول ، وأما الحال فيعطى انتقالا ، ويوهم تقيد العدم استكبارهم ، مع أن الواقع أو عدم استكبارهم مطلق غير مقيد بحال ، والله الموفق.
(٢) قال محمود : «إن قلت ما فائدة قوله اثنين مع إغناء التثنية عن ذلك ... الخ» قال أحمد : وهذا الفصل من حسناته التي لا يدافع عنها ، والله الموفق.