مشبه حالا بحال وقصة بقصة (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ) كنه ما تفعلون وعظمه ، وهو معاقبكم عليه بما يوازيه في العظم ، لأنّ العقاب على مقدار الإثم (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) كنهه وكنه عقابه ، فذاك هو الذي جرّكم إليه وجرأكم عليه ، فهو تعليل للنهى عن الشرك. ويجوز أن يراد : فلا تضربوا لله الأمثال ، إنّ الله يعلم كيف يضرب الأمثال ، وأنتم لا تعلمون.
(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(٧٥)
ثم علمهم كيف تضرب فقال : مثلكم في إشراككم بالله الأوثان : مثل من سوّى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف ، وبين حرّ مالك قد رزقه الله مالا فهو يتصرف فيه وينفق منه كيف شاء. فإن قلت : لم قال (مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) (١) وكل عبد مملوك ، وغير قادر على التصرف؟ قلت : أما ذكر المملوك فليميز من الحرّ ، لأن اسم العبد يقع عليهما جميعا ، لأنهما من عباد الله. وأما (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) فليجعل غير مكاتب ولا مأذون له ، لأنهما يقدران على التصرف.
__________________
(١) عاد كلامه. قال : «فان قلت لم قال مملوكا لا يقدر على شيء ... الخ» قال أحمد : والقول بصحة ملكه هو مذهب الامام مالك رضى الله عنه. وفي هذه الآية له معتصم ، لأن الله تعالى مثل بالمملوك لأنه مظنة العجز وعدم الملك والتصرف غالبا ، ثم أفصح عن المعنى المقصود : وهو أن هذا المملوك ليس بمن اتفق أن ملكة سيده فملك وقدر ، بل هو على الأصل المعهود في المماليك عاجز غير قادر ، ولو لم يكن ملك العبد متصورا ومعهودا شرعا وعرفا ، لكان قوله تعالى (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) كالتكرار لما فهم من قوله (عَبْداً مَمْلُوكاً) وقول القائل يقول إنه احتراز من المكاتب ، بعيد من فصاحة القرآن : فانه لو كان العبد لا يصح منه ملك البتة إلا في حال الكتابة ، لكانت إرادته حينئذ من إطلاق اللفظ ، كالألغاز الذي لا يعهد مثله في بيان القرآن واستيلائه على صنوف البلاغة. ومثل هذا أنكره الامام أبو المعالي على من حمل قوله عليه السلام : «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها» على المكاتبة لبعد القصد إليها على شذوذها.
وأما الاحتراز به عن المأذون له فيبنى على القول بأن المراد بعدم القدرة عدم المكنة من التصرف ، وإن لم يكن المأذون له مالكا عند هذا القائل. وهذا بعيد عن مطابقة قوله (وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً) فإنها توجب أن يكون المراد بقوله (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) لا يملك شيئاً من الرزق ، كما تقول في الحر المفلس : فلان لا يقدر على شيء ، أى لا يملك شيئاً يقدر على التصرف فيه. فتلخص من هذا البحث أن في الآية مجالا لنصرة مذهب مالك ، وإن كان لقائل أن يقول : هذه الصفة لازمة كالإيضاح لفائدة ضرب المثل بالمملوك ، كأنه قيل : وإنما ضربنا المثل بالمملوك ، لأن صفته اللازمة له وسمته المعروفة به ، أنه لا يقدر على شيء. أى لا يصح منه ملك ، وكثيراً ما يجيء الحال والصفة لا يقصد بواحد منهما تقييده ولا تخصيص ، ولكن إيضاح وتفسير. ومن ذلك قوله تعالى (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) فقوله لا برهان له به. لا يقصد به تمييز له سوى (اللهُ) من «إله» لأن كل مدعو إلها غير الله تعالى ، لا برهان به. وإنما أريد أن عدم البرهان من لوازم دعاء إله غير الله تعالى ، فهذا أقصى ما يمكن أن ينتصر به للقائل بعدم صحة ملك العبد. ولنا أن نقول في دفعه أن الأصل في الصفة والحال وشبههما التخصيص والتقييد. وأما الوارد من ذلك لازما فنادر على خلاف الأصل ، والله الموفق.