للحق بعد ظهوره (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) لقضى أمر إهلاكهم (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) بعد نزوله طرفة عين (١). إما لأنهم إذا عاينوا الملك قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورته (٢) وهي آية لا شيء أبين منها وأيقن ، ثم لا يؤمنون كما قال : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى) لم يكن بدّ من إهلاكهم ، كما أهلك أصحاب المائدة. وإما لأنه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف عند نزول الملائكة (٣) فيجب إهلاكهم. وإما لأنهم إذا شاهدوا ملكا في صورته زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون. ومعنى (ثُمَ) بعد ما بين الأمرين : (٤) قضاء الأمر ، وعدم الإنظار. جعل عدم الإنظار أشدّ من قضاء الأمر ، لأنّ مفاجأة الشدّة أشدّ من نفس الشدّة (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً) ولو جعلنا الرسول ملكا كما اقترحوا لأنهم كانوا يقولون : لو لا أنزل على محمد ملك. وتارة يقولون : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) ، (لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) ، (لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) لأرسلناه في صورة رجل ، كما كان ينزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلم الأحوال في صورة دحية (٥) لأنهم لا يبقون مع رؤية الملائكة في صورهم (وَلَلَبَسْنا
__________________
(١) قال محمود : «يعنى لا ينظرون بعد نزوله طرفة عين ... الخ» قال أحمد : لا يحسن أن يجعل سبب مناجزتهم بالهلاك وضوح الآية في نزول الملك ، فانه ربما يفهم هذا الكلام أن الآيات التي لزمهم الايمان بها دون نزول الملك في الوضوح ، وليس الأمر كذلك. فالوجه ـ والله أعلم ـ أن يكون سبب تعجيل عقوبتهم بتقدير نزول الملك ، وعدم إيمانهم أنهم اقترحوا مالا يتوقف وجوب الايمان عليه ، إذ الذي يتوقف الوجوب عليه ، المعجز من حيث كونه معجزاً ، لا المعجز الخاص. فإذا أجيبوا على وقف مقترحهم فلم ينجع فيهم ، كانوا حينئذ على غاية من الرسوخ في العناد المناسب لعدم النظرة ، والله أعلم.
(٢) متفق عليه من روآية مسروق عن عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل في صورته مرتين. وفي روآية لها : رأى جبريل له ستمائة جناح.
(٣) عاد كلامه. قال : «وإما لأنه يزول الاختيار الذي قاعدة التكليف مبنية عليه عند نزول الملك فيجب إهلاكهم وإما لأنهم إذا شاهدوا الملك في صورته زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون» قال أحمد : ويقوى هذا الوجه قوله : ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا. قال ابن عباس : ليتمكنوا من رؤيته ولا يهلكوا من مشاهدة صورته.
(٤) عاد كلامه. قال : «ومعنى ـ ثم ـ بعد ما بين الأمرين قضاء الأمر ... الخ» قال أحمد : وهذه النكتة من محاسن ، تنبيهاته.
(٥) متفق عليه من روآية أبى عثمان النهدي عن أسامة بن زيد قال «نبئت أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أم سلمة ، فجعل يتحدث ، ثم قام فقال نبى الله لأم سلمة : من هذا؟ فقالت : دحية الكلبي ... الحديث» وللحاكم من روآية مسروق عن عائشة قالت : «لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يناجى في حجري رجلا شبهته بدحية الكلبي. فقال لي : هذا جبريل ، وهو يقرئك السلام» وللطبراني من روآية قتادة عن أنس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : يأتينى جبريل على صورة دحية الكلبي» قال أنس «وكان دحية رجلا جسيما جميلا أبيض» وفي إسناده عفير بن سعدان وهو ضعيف ولأبى نعيم في الدلائل من روآية صفوان بن عمرو عن شريح بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «رأيت جبرئيل في خلقه الذي خلق عليه ، وكنت أراه قبل ذلك في صور مختلفة وأكثر ما كنت أراه في صورة دحية الكلبي» رجاله ثقات ، إلا أنه مرسل وروى ابن سعد من طريق يحيى بن يعمر عن ابن عمر «كان جبريل يأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي».