عبادته ويكون ذا خوف ورجاء ، نعم قالوا : الحال قيد لعاملها وهو هنا الأمر ، فإن قلنا : إنه أعم من الوجوب فلا إشكال ، وإن قلنا : إنه حقيقة في الوجوب اقتضى وجوب الرجاء المقيد به العبادة المأمور بها ولعله ليس بواجب والقول بأنه يقتضي وجوب المقيد دون القيد فيه كلام في الأصول لا يخفى على ذويه. وما أورد من أنه يلزم على هذا الوجه التوسط بين العصا ولحائها ، فإن الذي جعل لكم الأرض موصول بربكم صفة له ـ يجاب عنه بأن القطع يهون الفصل وإن كان هناك اتصال معنوي ، وإن جعل (الَّذِي جَعَلَ) مبتدأ ـ خبره لا تجعلوا ـ كاد يزول الإشكال ويرتفع المقال ، ومع هذا لا شك في مرجوحية هذا الوجه وإن أشعر كلام مولانا البيضاوي بأرجحيته ، ثم لا يبعد أن يقال : إن المعنى في الآية على التعليل إما لأن ـ لعل ـ تجيء بمعنى كي كما ذهب إليه ابن الأنباري وغيره (٢) واستشهدوا بقوله :
فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا |
|
نكف ووثقتم (٣) لنا كل موثق |
أو لأنها تجيء للإطماع فيكنى به بقرينة المقام عن تحقق ما بعدها على عادة الكبراء ، ثم يتجوز به عن كل متحقق كتحقق العلة سواء كان معه أطماع أم لا على ما قيل. ولا يرد أن تعليل الخلق وهو فعله تعالى مما لم يجوزه أكثر الأشاعرة حيث منعوا تعليل أفعاله سبحانه بالأغراض لئلا يلزم استكماله ـ عز شأنه ـ بالغير وهو محال لأنا نقول الحق الذي لا محيص عنه أن أفعاله تعالى معللة بمصالح العباد مع أنه سبحانه لا يجب عليه الأصلح ، ومن أنكر تعليل بعض الأفعال ـ لا سيما الأحكام الشرعية كالحدود ـ فقد كاد أن ينكر النبوة كما قاله مولانا صدر الشريعة ، والوقوف على ذلك في كل محل مما لا يلزم ، على أن بعضهم يجعل الخلاف في المسألة لفظيا لأن العلة إن فسرت بما يتوقف عليه ويستكمل به الفاعل امتنع ذلك في حقه سبحانه ، وإن فسرت بالحكمة المقتضية للفعل ظاهرا مع الغنى الذاتي فلا شبهة في وقوعها ولا ينكر ذلك إلا جهول أو معاند ، وإنما لم يقل سبحانه في النظم تعبدون لأجل ـ اعبدوا ـ أو اتقوا لأجل تتقون ليتجاوب طرفاه مع اشتماله على صنعة بديعة من رد العجز على الصدر لأن التقوى قصارى أمر العابد فيكون الكلام أبعث على العبادة وأشد إلزاما كذا قيل ، وفي القلب منه شيء ، وسبب حذف مفعول (تَتَّقُونَ) مما لا يخفى ، وابن عباس رضي الله تعالى عنه يقدره ـ الشرك ـ والضحاك ـ النار ـ وأظنك لا تقدر شيئا ، ولما أمر سبحانه المكلفين بعبادة الرب الواجد لهم ـ ووصفه بما وصفه ، ومعلوم أن الصفة آلة لتمييز الموصوف عما عداه وأن تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعلية ـ أشعرت الآية أن طريق معرفته تعالى والعلم بوحدانيته واستحقاقه العبادة النظر في صنعه ، ولما كان التربية والخلق اللذان نيط بهما العبادة سابقين على طلبها فهم أن العبد لا يستحق ثوابا حيث أنعم عليه قبل العبادة بما لا يحصى مما لا تفي الطاقة البشرية بشكره ولا تقاوم عبادته عشر عشره ، واستدل بالآية من زعم أن التكليف بالمحال واقع حيث أمر سبحانه بعبادته من آمن به ومن كفر بعد إخباره عنهم أنهم لا يؤمنون وأنهم عن ضلالتهم لا يرجعون ، وقد تقدم الكلام في ذلك فارجع إليه (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً) الموصول إما منصوب على أنه نعت ـ ربكم ـ أو بدل منه أو مقطوع بتقدير أخص أو أمدح وكونه مفعول تتقون ـ كما قاله أبو البقاء ـ إعراب غث ينزه القرآن عنه ، وكونه نعت الأول يرد عليه أن النعت لا ينعت عند الجمهور إلا في مثل يا أيها الفارس ذو الجمة ، وفيه أيضا غير مجمع عليه ، وإما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره جملة (فَلا تَجْعَلُوا) والفاء قد تدخل في خبر الموصول بالماضي كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ) [البروج : ١٠] إلى
__________________
(٢) قطرب وابن كيسان ا ه منه.
(٣) فإن قوله : وثقتم إلخ يقتضي عدم التردد في الوقوع كما في الترجي وبهذا يتعين أنها بمعنى كي فليفهم ا ه منه.