قوله تعالى : (فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) [البروج : ١٠] والاسم الظاهر يقوم مقام الرابط عند الأخفش والإنشاء يقع خبرا بالتأويل المشهور ، ومع هذا كله الأولى ترك ما أوجبه وأبرد من بخ قول من زعم أنه مبتدأ خبره (رِزْقاً لَكُمْ) بتقدير يرزق ، و (جَعَلَ) بمعنى صير والمنصوبان بعده مفعولاه ، وقيل : بمعنى أوجدوا انتصاب الثاني على الحالية أي أوجد الأرض حالة كونها مفترشة لكم فلا تحتاجون للسعي في جعلها كذلك ، ومعنى تصييرها (فِراشاً) أي كالفراش في صحة القعود والنوم عليها أنه سبحانه جعل بعضها بارزا عن الماء مع أن مقتضى طبعها أن يكون الماء محيطا بأعلاها لثقلها وجعلها متوسطة بين الصلابة واللين ليتيسر التمكن عليها بلا مزيد كلفة ، فالتصيير باعتبار أنه لما كانت قابلة لما عدا ذلك فكأنه نقلت منه وإن صح ما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ أن الأرض خلقت قبل خلق السماء غير مدحوة فدحيت بعد خلقها ومدت ـ فأمر التصيير حينئذ ظاهر إلا أن كل الناس غير عالمين به ، والصفة يجب أن تكون معلومة للمخاطب والذهاب إلى الطوفان ، واعتبار التصيير بالقياس إليه من اضطراب أمواج الجهل ولا ينافي كرويتها كونها (فِراشاً) لأن الكرة إذا عظمت كان كل قطعة منها كالسطح في افتراشه كما لا يخفى. وعبر سبحانه هنا ـ يجعل ـ وفيما تقدم ـ بخلق ـ لاختلاف المقام أو تفننا في التعبير كما في قوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الإنعام : ١] وتقديم المفعول الغير الصريح لتعجيل المسرة ببيان كون ما يعقبه من منافع المخاطبين أو للتشويق إلى ما يأتي بعده لا سيما بعد الإشعار بمنفعته فيتمكن عند وروده فضل تمكن ، أو لما في المؤخر وما عطف عليه من نوع طول فلو قدم لفات تجاوب الأطراف ، واختار سبحانه لفظ ـ السماء ـ على السماوات موافقة للفظ ـ الأرض ـ وليس في التصريح بتعددها هنا كثير نفع ، ومع هذا يحتمل أن يراد بها مجموع السماوات ، وكل طبقة وجهة منها ، والبناء في الأصل مصدر أطلق على المبنى بيتا كان (١) أو قبة أو خباء أو طرافا ، ومنه بنى بأهله أو على أهله خلافا للحريري لأنهم كانوا إذا تزوّجوا ضربوا خباء جديدا ليدخلوا على العروس فيه ، والمراد بكون (السَّماءَ بِناءً) أنها كالقبة المضروبة أو أنها كالسقف للأرض ، ويقال لسقف البيت بناء ، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وقدم سبحانه حال الأرض لما أن احتياجهم إليها وانتفاعهم بها أكثر وأظهر ، أو لأنه تعالى لما ذكر خلقهم ناسب أن يعقبه بذكر أول ما يحتاجونه بعده وهو المستقر أو ليحصل العروج من الأدنى إلى الأعلى ، أو لأن خلق الأرض متقدم على خلق السماء ـ كما يدل عليه ظواهر كثير من الآيات ـ أو لأن الأرض لكونها مسكن النبيين ومنها خلقوا أفضل من السماء ، وفي ذلك خلاف مشهور ، وقرأ يزيد الشامي : «بساطا» ، وطلحة «مهادا» وهي نظائر ، وأدغم أبو عمرو لام ـ جعل ـ في لام ـ لكم ـ (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) عطف على ـ جعل ـ و (مِنَ) الأولى للابتداء متعلقة بأنزل أو بمحذوف وقع حالا من المفعول وقدم عليه للتشويق على الأول مع ما فيه من مزيد الانتظام مع ما بعد ، أو لأن السماء أصله ومبدؤه ولتتأتى الحالية على الثاني إذ لو قدم المفعول ـ وهو نكرة ـ صار الظرف صفة ، وذكر في البحر أن (مِنَ) على هذا للتبعيض أي من مياه السماء وهو كما ترى. والمراد من السماء جهة العلو أو السحاب وإرادة الفلك المخصوص بناء ـ على الظواهر ـ غير بعيدة نظرا إلى قدرة الملك القادر جل جلاله وسمت عن مدارك العقل أفعاله ، إلا أن الشائع أن الشمس إذا سامتت بعض البحار والبراري أثارت من البحار بخارا رطبا ومن البراري يابسا ، فإذا صعد البخار إلى طبقة الهواء الثالثة تكاثف فإن لم يكن البرد قويا اجتمع وتقاطر لثقله بالتكاثف ، فالمجتمع سحاب والمتقاطر مطر ، وإن كان قويا كان ثلجا وبردا ، وقد لا ينعقد ويسمى ضبابا.
__________________
(١) في الكشف الأول من الشعر ، والثاني من لبن والثالث من وبر أو صوف ، والرابع من آدم ، وفي الثاني نظر وإن ذكره ابن السكيت فليراجع ا ه منه.