فاسق وفي كفره قولان ، وجمع على كفره كمن قال : إنه مؤثر بنفسه فيجب عندهم أن يعتقد المكلف أن الري جاء من جانب المبدأ الفياض بلا واسطة وصادف مجيئه شرب الماء من غير أن يكون للماء دخل في ذلك بوجه من الوجوه سوى الموافقة الصورية ، والفقير لا أقول بذلك ولكني أقول : إن الله سبحانه ربط الأسباب بمسبباتها شرعا وقدرا ، وجعل الأسباب محل حكمته في أمره الديني الشرعي وأمره الكوني القدري ومحل ملكه وتصرفه ، فإنكار الأسباب والقوى جحد للضروريات وقدح في العقول والفطر ومكابرة للحس وجحد للشرع والجزاء ، فقد جعل الله ـ تعالى شأنه ـ مصالح العباد في معاشهم ومعادهم ، والثواب والعقاب والحدود والكفارات والأوامر والنواهي والحل والحرمة كل ذلك مرتبطا بالأسباب قائما بها بل العبد نفسه وصفاته وأفعاله سبب لما يصدر عنه ، والقرآن مملوء من إثبات الأسباب ، ولو تتبعنا ما يفيد ذلك من القرآن والسنة لزاد على عشرة آلاف موضع حقيقة لا مبالغة ، ويا لله تعالى العجب إذا كان الله خالق السبب والمسبب وهو الذي جعل هذا سببا لهذا ، والأسباب والمسببات طوع مشيئته وقدرته منقادة ، فأي قدح يوجب ذلك في التوحيد وأي شرك يترتب عليه؟! نستغفر الله تعالى مما يقولون : فالله عزوجل يفعل بالأسباب التي اقتضتها الحكمة مع غناه عنها كما صح أن يفعل عندها لا بها ، وحديث الاستكمال يرده أن الاستكمال إنما يلزم لو توقف الفعل على ذلك السبب حقيقة واللازم باطل لقوله تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢] فالأسباب مؤثرة بقوى أودعها الله تعالى فيها ولكن بإذنه وإذا لم يأذن وحال بينها وبين التأثير لم تؤثر كما يرشدك إلى ذلك قوله تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [البقرة : ١٠٢] ولو لم يكن في هذه الأسباب قوى أودعها العزيز الحكيم لما قال سبحانه : (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) [الأنبياء : ٦٩] إذ ما الفائدة في القول وهي ليس فيها قوة الإحراق وإنما الإحراق منه تعالى بلا واسطة ولو كان الأمر كما ذكروا لكان للنار أن تقول : إلهي ما أودعتني شيئا ولا منحتني قوة وما أنا إلا كيد شلّاء صحبتها يد صحيحة تعمل الأعمال وتصول وتجول في ميدان الأفعال أفيقال لليد الشلاء لا تفعلي وفي ذلك الميدان لا تنزلي ولا يقال ذلك لليد الفعالة وهي الحرية بتلك المقالة ، ولا أظن الأشاعرة يستطيعون لذلك جوابا ولا أراهم يبدون فيه خطابا ، وهذا الذي ذكرناه هو ما ذهب إليه السلف الصالح وتلقاه أهل الله تعالى بالقبول ، ولا يوقعنك في شك منه نسبته للمعتزلة فإنهم يقولون أيضا لا إله إلا الله أفتشكّ فيها لأنهم قالوها معاذ الله تعالى من التعصب فالحكمة ضالة المؤمن والحق أحق بالاتباع والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل.
(فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) نهي معطوف على ـ اعبدوا ـ مترتب عليه فكأنه قيل : إذا وجب عليكم عبادة ربكم فلا تجعلوا لله ندا وأفردوه بالعبادة إذ لا رب لكم سواه وإيقاع الاسم الجليل موقع الضمير لتعيين المعبود بالذات بعد تعيينه بالصفات وتعليل الحكم بوصف الألوهية التي عليها يدور أمر الوحدانية واستحالة الشركة والإيذان باستتباعها لسائر الصفات ؛ وقيل : لفظ الرب مستعمل في المفهوم الكلي. والله علم للجزئي الحقيقي الواجب الوجود تعالى شأنه فلا يكون من وضع المظهر موضع المضمر ، وحينئذ يظهر الفرق بين هذه الآية الكريمة ـ حيث علق العبادة بصفة الربوبية فالمناسب الفاء ـ وبين قوله تعالى : (اعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) [النساء : ٣٦] حيث علق العبادة وعدم الشرك بذاته تعالى فالمناسب الواو ، فلا يرد أن المناسب على هذا الواو كما في الآية الثانية أو نفي منصوب بإضمار ـ أن ـ جواب للأمر كما قاله مولانا البيضاوي ، واعترض بأنه يأباه إن ذلك فيما يكون الأول سببا للثاني ، ولا ريب في أن العبادة لا تكون سببا للتوحيد الذي هو أصلها ومنشؤها ، وأجيب بأن عبادته تعالى أساسها التوحيد وعدم الإشراك به ، وأما عبادة الرب فليس أصلها عدم الإشراك بذاته تعالى بل من متفرعاته ، والحق أن الآية تضمنت عبادة رب موصوف بما