الجر للاستحقاق وكيفيته مستفادة من خارج ولا استحقاق بالذات فهو بمقتضى وعد الشارع الذي لا يخلفه فضلا وكرما لكن بشرط الموت على الإيمان ، و ـ الجنة ـ في الأصل المرة من الجن ـ بالفتح ـ مصدر جنه إذا ستره ، ومدار التركيب على الستر ثم سمي بها البستان الذي سترت أشجاره أرضه أو كل أرض فيها شجر ونخل فإن كرم ففردوس ، وأطلقت على الأشجار نفسها ووردت في شعر الأعشى (١) بمعنى النخل خاصة ثم نقلت وصارت حقيقة شرعية في دار الثواب إذ فيها من النعيم «مالا ، ولا» مما هو مغيب الآن عنا ، وجمعت جمع قلة في المشهور لقلتها عددا كقلة أنواع العبادات ولكن في كل واحدة منها مراتب شتى ودرجات متفاوتة على حسب تفاوت الأعمال والعمال ، وما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها سبع لم يقف على ثبوته الحفّاظ ، وتنوينها إما للتنويع أو للتعظيم ، وتقديم الخبر لقرب مرجع الضمير وهو أسرّ للسامع ، والشائع التقديم إذا كان الاسم نكرة ك (إِنَّ لَنا لَأَجْراً) [الأعراف : ١١٣] و ـ تحت ـ ظرف مكان لا يتصرف فيه بغير (مِنْ) كما نص عليه أبو الحسن ، والضمير للجنات فإن أريد الأشجار فذاك مع ما فيه قريب في الجملة وإن أريد الأرض قيل ـ من تحت أشجارها ـ أو عاد عليها باعتبار الأشجار استخداما ونحوه ، وقيل : إن «تحت» بمعنى جانب ـ كداري تحت دار فلان ـ وضعف كالقول ـ من تحت أوامر أهلها ـ وقيل : منازلها ، وإن أريد مجموع الأرض والأشجار فاعتبار التحتية ـ كما قيل ـ بالنظر إلى الجزء الظاهر المصحح لاطلاق الجنة على الكل والوارد في الأثر الصحيح عن مسروق إن أنهار الجنة تجري في غير أخدود ، وهذا في أرض حصباؤها الدر والياقوت أبلغ في النزهة وأحلى في المنظر وأبهج للنفس :
وتحدث الماء الزلال مع الحصى |
|
فجرى النسيم عليه يسمع ما جرى |
والأنهار جمع نهر ـ بفتح الهاء وسكونها ـ والفتح أفصح ، وأصله الشق ، والتركيب للسعة ولو معنوية ـ كنهر السائل ـ بناء على أنه الزجر البليغ فأطلق على ما دون البحر وفوق الجدول ، وهل هو نفس مجرى الماء أو الماء في المجرى المتسع؟ قولان : أشهرهما الأول ، وعليه فالمراد مياهها أو ماؤها ، وتأنيث (تَجْرِي) رعاية للمضاف إليه أو للفظ الجمع ، وفي الكلام مجاز في النقص أو في الطرف «أولا ، ولا» والإسناد مجازي ، و ـ أل ـ للعهد الذهني قيل : أو الخارجي لتقدم ذكر الأنهار في قوله تعالى : (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ) [محمد : ١٥] الآية فإنها مكية على الأصح ، وذي مدنية نزلت بعدها ، واستبعده السيد والسعد ، وقيل : عوض عن المضاف إليه ـ أي أنهارها ـ وهو مذهب كوفي ، وحملها على الاستغراق على معنى يجري تحت الأشجار جميع أنهار الجنة فهو وصف لدار الثواب بأن أشجارها على شواطئ الأنهار وأنهارها تحت ظلال الأشجار أبرد من الثلج ، ولا يخفى الكلام على جمع القلة.
(كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) صفة ثانية لجنات أخّرت عن الأولى لأن جريان الأنهار ـ من تحتها ـ وصف لها باعتبار ذاتها ، وهذا باعتبار سكانها أو خبر مبتدأ محذوف ـ أي هم ـ والقرينة ذكره في السابقة واللاحقة ، وكون الكلام مسوقا لبيان أحوال المؤمنين ، وفائدة حذف هذا المبتدأ تحقق التناسب بين الجمل الثلاثة صورة لاسميتها ، ومعنى لكونها جواب سؤال ـ كأنه قيل : ما حالهم في تلك الجنات؟ ـ فأجيب بأن لهم فيها ثمارا لذيذة عجيبة وأزواجا نظيفة (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) وتقدير المبتدأ هو أو هي ـ للشأن أو القصة ـ ليس بشيء بناء على أنه لا يجوز حذف هذا الضمير ، وإذا لم تدخله النواسخ لا بد أن يكون مفسره جملة اسمية ، نعم جاز تقدير هي للجنات والجملة خبر إلا أن التناسب أنسب أو جملة مستأنفة ـ كأنه لما وصف الجنات بما ذكر وقع في الذهن أن
__________________
(١) وهو قوله : كأن عيني في غربي.