محمد بيده إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي واصلة إلى فيه حتى يبدل الله تعالى مكانها مثلها» فلعلهم إذا رأوها على الهيئة الأولى قالوا ذلك ، والداعي لهم لهذا القول فرط استغرابهم وتبجحهم بما وجدوا من التفاوت العظيم.
والمشهور أن كون المراد بالقبلية في الدنيا أولى مما يقدم في الآخرة لأن (كُلَّما) تفيد العموم ولا يتصور قولهم ذلك في أول ما قدم إليهم ، وقيل : كون المراد بها في الآخرة أولى لئلا يلزم انحصار ثمار الجنة في الأنواع الموجودة في الدنيا مع أن فيها ما علمت وما لم تعلم ، على أن فيه توفية بمعنى حديث تشابه ثمار الجنة وموافقته ـ لمتشابه ـ بعد فإنه في رزق الجنة أظهر ، وإعادة الضمير إلى المرزوق في الدارين تكلف وستسمعه بمنه تعالى ، وفي الآية محمل آخر يميل إليه القلب بأن يكون ما رزقوه قبل هو الطاعات والمعارف التي يستلذها أصحاب الفطرة والعقول السليمة ، وهذا جزاء مشابه لها فيما ذكر من اللذة كالجزاء الذي في ضده في قوله تعالى : (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [العنكبوت : ٥٥] أي جزاءه ـ فالذي رزقناه ـ مجاز مرسل عن جزائه بإطلاق اسم المسبب على السبب ولا يضر في ذلك أن الجنة وما فيها من فنون الكرامات من الجزاء ـ كمالا في ـ أو هو استعارة بتشبيه الثمار والفواكه بالطاعات والمعارف فيما ذكر ، وقيل : أرض الجنة قيعان يظهر فيها أعمال الدنيا كما يشير إليه بعض الآثار فثمرة النعيم ما غرسوه في الدنيا فتدبر (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) تذييل للكلام السابق ـ وتأكيد له بما يشتمل على معناه ـ لا محل له من الإعراب ، ويحتمل الاستئناف والحالية بتقدير «قد» وهو شائع ، وحذف الفاعل للعلم به وهو ظاهرا الخدم الولدان كما يشير إليه قراءة هارون والعتكي «وأتوا» على الفاعل وفيها إضمار لدلالة المعنى عليه ، وقد أظهر ذلك في قوله تعالى : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) إلى قوله سبحانه (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) والضمير المجرور إما على تقدير أن يراد ـ من قبل ـ في الدنيا فراجع إلى المفهوم الواحد الذي تضمنه اللفظان هذا ـ و ـ (الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) وهو المرزوق في الدارين ـ أي أوتوا بمرزوق الدارين متشابها بعضه بالبعض ـ ويسمى هذا الطريق بالكناية الإيمائية ولو رجع الى الملفوظ لقيل بهما ، وعبر عما بعضه ماض وبعضه مستقبل بالماضي لتحقق وقوعه ، وفي الكشف أن المراد من المرزوق في الدنيا والآخرة الجنس الصالح التناول لكل منهما لا المقيد بهما ، وإما على تقدير أن يراد في الجنة فراجع إلى الرزق أي أوتوا بالمرزوق في الجنة متشابه الأفراد. قال أبو حيان : والظاهر هذا لأن مرزوقهم في الآخرة هو المحدث عنه والمشبه ـ بالذي رزقوه من قبل ـ ولان هذه الجملة إنما جاءت محدثا بها عن الجنة وأحوالها وكونه يخبر عن المرزوق في الدنيا والآخرة ـ أنه متشابه ليس من حديث الجنة ـ إلا بتكلف ، ولا يعكر ـ على دعوى متشابه ما في الدارين ـ ما أخرجه البيهقي وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : «ليس في الجنة من أطعمة الدنيا إلا الأسماء» لأنه لا يشترط فيه أن يكون من جميع الوجوه وهو حاصل في الصورة التي هي مناط الاسم وإن لم يكن في المقدار والطعم ، وتحريره أن إطلاق الأسماء عليها لكونها على الاستعارة يقتضي الاشتراك فيما هو مناطها وهو الصورة ، وبذلك يتحقق التشابه بينهما فالمستثنى في الأثر الأسماء وما هو مناطها بدلالة العقل (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) صفة ثالثة ورابعة للجنات وأوردت الأوليتان بالجملة الفعلية لإفادة التجدد ، وهاتان بالاسمية لإفادة الدوام ، وترك العاطف في البعض ـ مع إيراده في البعض ـ قيل : للتنبيه على جواز الأمرين في الصفات ، واختص كل بما اختص به لمناسبة لا تخفى ، وذهب أبو البقاء إلى أن هاتين الجملتين مستأنفتان ، وجوز أن تكون الثانية حالا من ضمير الجمع في (لَهُمْ) والعامل فيها معنى الاستقرار ـ والأزواج ـ جمع قلة وجمع الكثرة زوجة ـ كعود وعودة ـ ولم يكثر استعماله في الكلام ، وقيل : ولهذا استغني عنه بجمع القلة توسعا ، وقد ورد في الآثار ما يدل على كثرة الأزواج في الجنة من